top of page

مصطلحات سادت ثم بادت

في أقلّ من جيل واحد تعرضت اللغة ومصطلحاتها الى إنزياح كبير يعزوه البعض الى تحولات فكرية أصابت العقل العربي نتيجة إخفاقه في خياراته التاريخية وفي إتمام المهام المنوطة به . المراجعة إذن، والنقد الذاتي الناتج عن الخيبات المتكررةهما بحسب غالبية الكتّاب العرب، المسؤولان الحقيقيان عن التحولات التي طالت بنية اللغة السياسية وخطابها المهيمن اليوم..

المصدر: الميادين نت

الجيل الذي عايش مرحلة أطلق عليها " مرحلة التحرّر العربي " يلحظ لا بّد ، التغيّر الهائل الذي أصاب بنية اللغة السياسية العربية ومصطلحاتها كما تعكسهُ الشعارات المستعملة حالياً أو كما تُعبّر عنه بعض وسائل الإعلام . يلحظ الجيل المحكى عنه، أفول مصطلح " التحرر الوطني " لحساب مصطلح " تحرّر الإنسان" مثلاً، ويلحظ أفول " مفهوم حق الشعوب في تقرير مصيرها" لصالح مصطلح حقوقي أيضاً، لكنه يقفز عن " الشعوب" الى تحديدات تتعلق بحقوق الإنسان. مصطلح تقرير المصير الذي كان دارجاً، كان مرفقاً أيضاً بمصطلح مقاومة الاحتلال كحق مشروع ، وبإختفاء الأول زال الثاني ليتسيد مصطلح جديد هو الإرهاب . المصطلحات في اللغة عامّة، وفي اللغة السياسية بخاصة، لها دلالات قلّ ما ينتبه إليها الناس عند وقعها الأول. وغالباً ما نلاحظ شيوعاً لعدد من المصطلحات التي تظهر دفعة واحدة وفي الوقت ذاته، لتشكّل خطاباً أو سردية متماسكة تعكس رؤية محدّدة للعالم ، وشكلاً خاصاً لتمثيلاته وفهمه. لا ندري بالضبط إن كان حدوث ذلك التغيير بالمفردات تُحدّدهُ بروز تحولات أو أحداث كبرى في الواقع الذي تعيشه الشعوب، لكننا على أيّ حال لانشّك لحظة، بأنها مترافقة دوماً مع نوع حادّ من التغيير في بُنى المجتمعات السياسية والإجتماعية والثقافية. في المجال الحقوقي الفارق هائل، المصطلح الأول : المقاومة حق لك، بينما في الثاني المتعلق بالأرهاب فحقّ عليك. الإنزياح كما يبدو تدريجاً، ليس لغوياً صرفاً بل هو يحمل مضامين فكرية وحقوقية جد مختلفة. السلوك ذاته الذي كان مشروعاً قانوناً ، أي شرعياً، تحوّل مع الوقت وبواسطة تحويل لغوي الى .. جريمة . كانت اللغة تتحدث عن إحتلال الصهيونية لأرض فلسطين، فصارت تتقبّل مصطلح العودة. حقوقياً الفارق شاسع. الاحتلال دواؤه القانوني المقاومة والنضال حتى التحرير، وأما " العودة" الى أرض الميعاد ، دواؤها قبول الآخر وإقتسام الأرض على هيئة دولتين. الاحتلال يتعاطى عادة مع مواطنين، أما " العائدون" فيتعاطون مع سكان غزة وسكان الضفة وسكان عرب إسرائيل!! كانت اللغة تشير الى المواطن الذي يرتضي لنفسه القيام بعمل سياسي ك " مناضل" لا كناشط سياسي. المناضل صاحب قضية حقّة ، وينتظم مع مجموعة في إطار حركة فكرية سياسية إجتماعية أو حزب عقائدي ينظم الأفكار والرؤى والمشاريع والسياسات والأولويات الموصلة الى الهدف. أما " الناشط " في اللغة الجديدة ففرد ينتمي الى حاسوبه وهو أداة تواصل لاعضواً في حزب يُعنى بنضالات القوى الاجتماعية بل فرداً يبحث عن حقوقه كإنسان، كفرد لا كعضو في مجتمع منهوبة ثرواته مثلاً، أو مواطن محروم من الوطن ومن بناء الدولة القادرة، ومن إمكانية إختيار نمط العيش المناسب لبلده. في أقلّ من جيل واحد تعرضت اللغة ومصطلحاتها الى إنزياح كبير يعزوه البعض الى تحولات فكرية أصابت العقل العربي نتيجة إخفاقه في خياراته التاريخية وفي إتمام المهام المنوطة به . المراجعة إذن، والنقد الذاتي الناتج عن الخيبات المتكررةهما بحسب غالبية الكتّاب العرب، المسؤولان الحقيقيان عن التحولات التي طالت بنية اللغة السياسية وخطابها المهيمن اليوم. يقول أنصارهذا التحوّل أن العقل المحلّي انتهى بأن إكتشف أن العلّة كامنة فيه وليست خارجه . التخلّف السياسي والإقتصادي والإستبداد والنسيج الاجتماعي المفتت والدولة المهلهلة والبطالة وارتهان الحكام للخارج ليسوا إذن بسبب الاحتلال الذي طال الأرض وما تحتها ، فحرم الدولة من النشوء بحرمانها من مواردها، بل بسبب تخلّف عقلي مُتأت من رفضنا " لحقوق الإنسان وقيم المجتمع المدني .. وهذه فعلاً مهزلة فهم مُتعثّر . في الحقيقة، كان يمكن الإقتناع بمثل هذه الحجج لو كانت المصطلحات المستعملة والتي صارت دارجة وعلى الموضة، مصطلحات محلية بنت بيئتنا وخاصة بنا، أما وان المفاهيم الدارجة " عالمية" فالتفسير المحلي لم يعد كافياً فالناشط غير المناضل ولسنا نبخس الأول دوره المُهم سوى أننا نربأ الخلط في المفاهيم . مفاهيم حقوق الإنسان والديمقراطية وقيم المجتمع المدني والدولة المدنية ليست مفاهيم مقتصرة على دنيا العرب دون سواهم بل هي مفاهيم كونية معروضة في سوق الأفكار كحلول دولية شاملة وصالحة لكل زمان ومكان . " عالمية" المصطلحات الجديدة المسيطرة على عالمنا الحالي أفضت الى عولمة اللغة وتوحيدها وإدخالها في قوالب مرصوصة تشخص المشكلة ذاتها في كل بقاع الأرض وتقترح ذات الحلول لكل الأمراض. وبالرغم من عاميتها وعولمتها فإن هذه اللغة نسيت ربما أن العالم اليوم ليس جزراً متوازية ومتساوية الوزن والحجم والقوة، وأن الحرية الفرديةمع احترامنا لها غير ممكنة في ظل دولة غير حرّة. ومن المفارقات الخطرة في هذا المجال ، أن اللغة الجديدة المهيمنة وغن كانت تُعنى بحقوق الإنسان وهذا جيّد، غير أن حقوقه المنادى بها لاتنتصر لحقوق دول وشعوب هذا الإنسان في أرضه مثلاً، وثرواته وموارده وكيفية إدارتها وطرق استعمالاتها. اللغة الجديدة تقتصر مهمتها على تحرير الإنسان المقموع دون النظر الى تحرير بلاده أو تحرير قرارها ، وفي الأمرين تلازم وتشابك وضرورة. يبقى السؤال هل تحرير الكائن / الفرد ممكن من دون تحرير أرضه وبلاده؟ هل الحرية الفردية ممكنة نظرياً بدون تحرير المجتمع من روحية " الألغاز " المسيطرة على إجتماعه؟ وهل ينجو بحريته الفردية وسط الطوائف والقبائل والعشائر وأيضاً العدو الخارجي؟ في الحقيقة علينا أن نسأل دائماً فالأسئلة مشروعة وأقل كوارثية من المفاهيم المغلوطة التي آلت إليها أحوالنا ومصطلحاتنا .

Recent Posts
bottom of page