عندما تؤمن بلا جدوى التظاهر والحماس
- عناية جابر
- Aug 27, 2018
- 4 min read
مُحصّنة من إغواء شعاراتنا اللبنانية، وعندي القدر الكبير من التحّفظ حيال الإرتماء في أحضان فئة أو جهة سياسية بعينها مع مراعاة قواعد وطنية ثابتة ليست تدعو الى التظاهر من أجلها.
المصدر: الميادين نت

عندما أرى على الشاشات الصغيرة، خروج الناس في مسيراتهم، وتجمهرهم في سبيل مطالبهم، يبدأ ما يُشبه الحماس يأخذ بي ويدعوني لآكون معهم، سوى أنني دائماً، أُسكتُ هذا الحماس – وهذا تعلمّتُه من حياتي اللبنانية – وأبذل كل قوتي لئلا أفقد السيطرة على نفسي وأخرج الى الشارع على نحو مُدّو. مُحصّنة من إغواء شعاراتنا اللبنانية، وعندي القدر الكبير من التحّفظ حيال الإرتماء في أحضان فئة أو جهة سياسية بعينها مع مراعاة قواعد وطنية ثابتة ليست تدعو الى التظاهر من أجلها. أملكُ ما يكفي من الحسّ النقدي تجاه المراحل التي تبدو وضّاءة في البداية، الى أن تفضحها أو تُذبلها نهاياتها المرتبكة.. أعرف العطب الأساسي الطائفي الذي يحكم البلد وناسه، ومن هذه المعرفة أُشهر تحّفظي الذي يحميني. كما أن أموراً قد تبدو تافهة لسواي، تُشغل بالي وتمنحني السلام الداخلي ، وتُعفيني من الإنخراط في التظاهر ورفع الشعارات ذات الجذر البيزنطي الجدلي، الذي لم يستقم حتى اللحظة على بديهة المواطنة الحقّة. أمور تافهة تبدو، تُشغل بالي وتلهيني: الكتب التي اقرأها، القصائد التي أكتبها، الهوس بتنظيف البيت وحُبّ الأشياء، الغرام الذي أكتنزهُ لمدينتي الجميلة، سماع الموسيقى، الغناء، الوقوع في حبّ الضعفاء والمُعذبّين والمرضى وفاقدي الرجاء، البساطة في كل شيء، ورياضة المشي، وقراءة وجوه الغرباء وحركة أجسادهم. أمور تافهة جداً تبدو، يمكن تأجيلها أو تحييدها والإنخراط مع العالم في حراكه الإحتجاجي.. لكن لا. لاأثق بأيّ أمر خارج إتساق حدسي وخارج ما تعوّدت الوثوق فيه. على كل حال الذين يخرجون الى التظاهر ، لايحتاجونني. أمكنني التثبّت من عدم حاجتهم إلي آلاف المرّات، ذلك أن لا احد يُنادي على اسمي بالميكروفونات أو يسأل عنّي أو ينتبه الى غيابي. عندما تنفّض تظاهرتهم ويؤوبون الى بيوتهم، لا يتفقّد أحدهم من غاب عن التظاهر أو من حضر. أثق أنهم لا يحتاجونني ، وأرتاح الى فكرة أنني " كبرّت عقلي" وعزفت عن المشاركةوجنذبتُ روحي أمراً ثقيلا، فأفرح وأروح أعبّ الهواء نقيّاً، أزفرهُ ببطء وبجرعات مدروسة. لا اثق بالحشود وأخشاها فلا أندّس بينها ولا أرفع شعاراتها مهما كنت مؤمنة بها. من الصعب جداً أن انضوي تحت يافطة أعرف سلفاً اضطراب تعبيرها والشرخ الأساسي الذي يعتريها. صعبٌ جداً في لبنانأن أتفيأ ظل يافطة تبدو في الشكل مُحقّة ومتزّنة، بينما مع قليل الإنتباه والتأمل، تكون في الحقيقة تئن من ضوضاء شعارها المُبهم. أشعر بقدر أكبر من الإطمئنان لو كتبت بنفسي ما أؤمن به، وأنا افعل ذلك غالباً. الكتابة تعفيني من ثقل كبير، وتُخلصّني من المحاباة بوجه عام، وفي الكلمات أحيا بمثل خفّة لمعان البلور. مع ذلك أحترم ، بل مفتونة بالجماهير التي تخرج الى الشوارع وتُعبّر عن مطالبها بإيمان كبير. لقد إختاروا مصائرهم، وأخلصوا لآمالهم، وارتضوا كل أذى يلحق بهم جرّاء تظاهرهم، عارفين مسبقاً بل موقنين أنهم يكونون ضحية إعتداء وحشي ربما، وإنهم قد يُنتزعون من الحياة نفسها، وأن كل واحد منهم مُهدّد بالفناء جرّاء شعاراته المرفوعة وحريته الموعودة . أنا عادية جداً ، وإهتماماتي عادية بحجم عصفور، وأكثر إضجاراً من أن أهتف أو أتظاهر ، وليس لغرابة موقفي أهمية في نظري على القل، سوى أنني أستميت في الدفاع عن عاديتي وضجري. أحبّ أن اعبّر عن إنسانيتي على الأقل ولا أقول سياستي ، من خلال الكتابة ومن دون أيّ هتاف مسموع، وأميل الى صبّ أحلامي وآمالي وحسّي الوطني والأخلاقي ، في حروف مسبوكة بصدق، تاركة للكلمات الحلول بدل الصراخ والضوضاء. أكتب في رغبة أن أكون أنا نفسي وما أكتبهُ، فكرة مُلحّة عن الجنس البشري النقّي، وأكتب ليأتي خطابي مُعبّراً عنّي، وليس تحت لواء الآخرين في أغلب ما يرفعونهُ من شعارات. طبعاً ، ليست الكتابة هنا من أجل مجد الكتابة ، ولكنني أكتب لكي أنحت عذابي وعذابات الآخرين بكلمات صنعتها وفكرتث فيها وأخلصت لها حرفاً حرفاً . علمتّنا حروبنا العربية، هزائمنا وسقطاتنا وإنكساراتنا، ان الشعارات المرفوعة كيفما اتفق ومن دون أفكار قوية، وبرغبة رفعها ليس إلإ، أنها إنما غرقت مع الوقت وسقطت في الأعماق. يغمرُ العالم اليوم ، النفاق والكذب والمعصية، الى إدعاءات النصر من دون كثير تبّصر، فيما الزوال يأخذ هذه الشعارات ، يُبللها ويمحيها بعد هدوء أسبابها. انتهى على ما أحسب ، عصر التجمهر ورفع الشعارات، فالحياة تبدأ من كلمة غير مرتهنة الى جهات مشبوهة، غير مرتهنة وغير مأجورة ولا تهاب. كان التجمهر ممكناً في الماضي ، يُنّجي ويُطّهر، لكننا الآن لا ننجو من تداخل اللاعبين الكثر، في تشابك مصالحهم وفي أسبابهم الريبية وفي التناقض بين ما يرفعون وما يُضمرون، كما في غفلة الجماهير عن السبب الكبير الكامن وراء هذا الترّدي المُخجل في ترّديه وفي عفونته. آن لنا أن نتصالح مع أنفسنا فلا نُساق كالقطعان، نتصالح مع أنفسنا ونُعفيها من الأوهام ما دمنا في قلب هذا العالم الجديد على ما هو عليه ، الممسوخ بالكذب والوعود الساقطة . آن لنا أن نرفع عن كواهلنا رعب الثقة بالتجمهر لأمر ، لشعار، لشخص لا يستحق الثقة، وآن أن نذهب الى مستقبلنا بقلب أقّل ثقلاً، ذلك أن الخلاص لم يفت ولا يزال في وسعنا النهل من بعض ماضينا المشرق والتعلّم منه وقراءة تاريخنا، نبني على ذلك الإشراق ونعمل عليه، جاهدين الى نقل حياتنا البائسة هذه ، الى مطهر جديد وخلق جديد وأفكار جديدة وصادقة يخوض صدقها في جياتنا. أن نتجمهر، أن نحتشد وندعو الى التظاهر والمسيرات لغرض ما ، فليس هذا بالضرورة كل ما يجب علينا فعلهُ، وليست الحشود وحدها من تنقلنا من عصر الى عصر، ولا الشعارات من زمن الى زمن. هكذا نرى الى الأمر، وهكذا يسعنا أن نضع دون رعب قدمنا في عالم أكثر نقاء، فالحياة الكريمة لاتزال تستحق أن تكون غرضنا.
Comments