top of page

الذاكرة العربية المنخورة

ما نحملهُ من تاريخ والتاريخ ذاكرة، لا يعدو أن يكون قبوراً كثيرة، وكلاماً مبحوحاً وذكريات مُقطعّة، واشلاء أوطان بلا سلالات والكثير الكثير من الخيانات .

المصدر: الميادين نت

http://www.almayadeen.net/articles/opinion/885277/الذاكرة-العربية-المنخورة/

نرثُ هذه الذاكرة المتوسطية التي لاتزال تتهدّم وتُبنى مرّة بعد مرّة، فنجدها مُتآكلة منخورة بفعل الحروب المتعاقبة علينا، وفداحة عدد الأحباء الذين يغادروننا.

لستُ أستنتجُ من هذا شيئاً عامّاً، فلكل منّا قدرته على مُصارعة النسيان. ذاكرتي بحرية بالكامل، من عصور أعماق سحيقة. صحيح أنها بُنيت وهُدّمت مراراً، لكني أشعر بأن تتابع الهدم والبنيان، لم يخلص من تدّخل إرادتي نفسها على البناء والهدم، وذلك بحسب حاجتي الإنتقائية الى إسترجاع هذه الذكرى أو تلك. ذاكرتي مجموعة أمواج، وأسماء، ومُدناً عظيمة أربّي مشاهدها في رأسي، وأزرعها في كتابتي فلا تخذلني أبداً.

هذه حالي، أما براد وليامز، وشخصين آخرين فقط في العالم كله، يحسبون أن تمتّعهم بذاكرة شخصية هائلة، خارقة للعادة، هي هبة إلهيّة إختصتهم بنعمتها النادرة.

ثلاثة أميركيين، منهم براد وليامز، ورجل أميركي آخر من أوهايو، وإمرأة من كاليفورنيا تحفّظ مصدر الخبر عن ذكر اسميهما. ومصدر الخبر هو بعض الباحثين في جامعة كاليفورنيا- إيرفين، أطلقوا على حالة هؤلاء الثلاثة ما أسموه ب " متلازمة فرط نشاط الذاكرة " ، إذ يُمكن لهؤلاء الثلاثة لو أعطيتهم تاريخاً مُعيناً، أن يُخبروك ليس فقط بما كانوا يفعلونهُ في ذلك التاريخ، بل ويسردون لك في الآن عينه ، كل الأحداث العالمية التي جرت في ذلك اليوم، وهو أمر يستطيعون فعلهُ بشأن كل يوم من حياتهم، وحياة هذا الكوكب، وما رافق ذلك التاريخ من أحداث شخصية حصلت لهم، وعالمية مرّت على العالم، على إتساعه.

استخدم الباحثون جهاز تصوير طبقي مغناطيسي لتشكيل صور ثلاثية الأبعاد للأدمغة الثلاثة التي ذكرت، صاحبة النشاط الذاكراتي المفرط، للوقوف على ما إذا كان تفوّق ذاكراتهم جزءاً من بُنية أدمغتهم، أو إن حجم هذه الأدمغة يختلف عن حجم أدمغتنا العادية، والنتائج الأوليّة تقول أن بعض التراكيب الخارجية لأدمغتهم، ذوي الذاكرة المتفوّقة هؤلاء، هي أكبر بشكل ملحوظ منه عند باقي البشر، وعندنا على وجه الخصوص، نحن جماعة النسيان والألزهايمر حتى، وأن القشرة الخارجية التي تُغلّف مقدمة جبهة أدمغتهم، ترتبط بالتفكير التسجيلي المُعقّد الذي – الحمد لله – لا نملك شبيهاً به.

من جهتي، دماغي قدّ النملة، ولا يحتفظ بشيء. لا ضغينة ولا حب حتى، وأوشك أن أنسى أسمي، واسم أمي، وبلدي، ووطننا العربي، خصوصاً أنه كبير ومن المحيط الى الخليج، وعلى من لا يُصدّق سوء حال ذاكرتي، من ناس العالم الغربي أعني، فليأت الى بلداننا وليرى الى أحوالنا، وليقف أمام المتاهة وجهاً لوجه، لنرى بأمّ العين الى إستسلامه عن التذكّر والى رغبته الوحيدة الى النسيان، نسيان كل شيء وأيّ شيء.

الأميركيون الثلاثة عندهم هوس الذاكرة، الهوس مقابل هستيريا النسيان عندنا. ولا بدّ أن هذا الهوس يتمتّع بطاقة رقمية ومشهدية حرفية - على ما يقول الباحثون في جامعة كاليفورنيا- الهوس الذي يقابل شبق الهستيريا الى النسيان الذي يسكننا والحمد لله، الهستيريا التي تختزن طاقة خيالية وتمثيلية بلا حدود، نستعملها نحن المهزومين أمام ثقل أحداثنا العربية الأليمة، المتتالية بلا خجل، ونُطلقها كرصاصة الرحمة على أذاها المختزن في ذاكرتنا الهرمة. حتى أننا لا نتوّرع أحياناً، بل نستعذب، إسقاط هستيريا النسيان على الذكريات القليلة اللطيفة، فلا " من شاف ولا من دري" مُتجنبين بذلك الوقوع في أسر لطفها، فلا يبدو ما عداها باهظ الألم وغير معقول.

يصّح القول من باب علمي وإحتراماً للعلم، إن الذاكرة المتفوّقة، ذاكرة عظيمة. لكنني أجدها ذاكرة غير حرّة ، ومصنوعة بنظام ودقّة يعافهما ضعفنا الإنساني. ذاكرتنا الضعيفة الرحيمة، تخترع أحداثها على هدى ضعفنا ذاته، وبحسب حاجتنا الى النسيان، وهو الرحمة الوحيدة حيال الفقد، فقد الأحباء سواء بموتهم الفعلي أو بإنتهاء علاقة الحب التي جمعتنا بهم، حتى لو كانوا مازالوا على قيد الحياة، والأمر بالنسيان سواء.

التناسب الميلودي في الذاكرات الخارقة لثلاثة أشخاص في العالم فحسب هو عنصر تفوّق لا جدال، نابع من التناسب والسيمترية. أمّا نحن بشيخوخة أدمغتنا، وضعف ذاكرتنا وإضمحلالها أحياناً، فثمة اللطف هنا، والرفق، والإيقاع، والمتواليات النغمية الحزينة، نستعملها كأسلحة ضدّ القهر، ضد حيثياته ومجرياته، ضد تذكرّه، ضد ما يضرب في الرأس والروح من طعنات، ومن أحداث مؤذية تصدّها المُخيلة الباذخة، ذلك البذخ التلويني الذي يُشرق في صور الناس الذين نُحبّهم، نخترعُ أوطاناً ومُدناً غير سليبة ولا مُهدّمة أو مهدّدة، ونستنبش اللامرئي المغلوب في الزمن وفي حاضرنا، نجلوه ونجعلهُ حقيقياً ومرئياً، باهراً بعيوننا الضخمة.

طبعاً نتكلّم عن ظاهرة علمية فحسب. ظاهرة وثقّها بعض العلماء وإقتصرت على ثلاثة أشخاص ولا أدري لماذا صودف أنهم من الجنسية الأميركية !! سوى أن العالم كله للحق، غرباً وشرقاً في هذا الزمن الغريب، يحملُ ناسهُ مثل ذاكرتنا العربية المُنهكة. العالم كله ليس على ما يرام . بيد أننا كعرب على وجه الخصوص، نُكابد نخراً أكثر في ذاكرتنا، فنحملُ ما تبقى منها ونطوي أيامنا على مشاهد حلوة قليلة، ونصنع منها أشرعة صغيرة لا تسافر بعيداً أو ننصبها خيماً فقيرة على شطآن غريبة. نحمل ذاكرتنا ولا نني نفقد منها ونحن نسافر من جيل الى جيل، وهي تزداد خفّة في تجوالنا كلما أسرع السباق والمتسابقون.

ما نحملهُ من تاريخ والتاريخ ذاكرة، لا يعدو أن يكون قبوراً كثيرة، وكلاماً مبحوحاً وذكريات مُقطعّة، واشلاء أوطان بلا سلالات والكثير الكثير من الخيانات . أوطان لم نحافظ عليها وتيجاناً بلا رجال، وترهات انقلبت حقائق، وحقائق بدّلت في حقائقها، وهذيانات عن بطولات مخترعة والكثير الكثير من الدم . ذاكرة حمراء مُخضبة أين لها أن تستذكر تاريخاً وحدثاً وعبرة على غرار ما تضخّهُ ذاكرة أولئك الثلاثة الذين تعذبّهم ذاكراتهم أيضاً .

Recent Posts
bottom of page