top of page

صورة يمنية، مزيج من طفل إستحال أباً، وأب إستحال طفلاً

  • عناية جابر
  • May 22, 2018
  • 4 min read

حياة اليمني، وليس شخصهُ فحسب أو موته، درامية في أساسها. إنها صراع ملحمي للكائن البشري في هذا العالم، صراع مع الخارج وصراع مع الداخل، وهي حياته ذات وتائر نفسية ومعيشية وفكرية متفاوتة مُتدّرجة غالباً .

المصدر: الميادين نت

http://www.almayadeen.net/articles/opinion/879995/صورة-يمنية---مزيج-من-طفل-استحال-أبا--وأب-استحال-طفلا/

لنقل أن الطفل اليمني الجاثي لصق جثّة والده، يقول لنا أنه لن يتركهُ مُسّجى وحيداً هكذا، وإنه – أي الطفل – في حال من إشراع الأجنحة أو فتحها على المدى، ليرحل ووالدهُ بعيداً عن عالمنا. لنقل أن مكوثه العنيد كما لو إبتهال، أو ياس كامل، مكوثه يتضمّن في داخله السكون، والدوران، والتململ. الكاميرا التي تتلذذ بنقلها لنا فجائع يمنية، تُرينا كم سهلة الدموع تجري من العيون، تجري أكثر ممّا تسيل، تجري وكأنها تغتسل من العيش والحركة، أو كما لو تعرّضت لتحويل أو ظهرت في نسخة ثابتة. صور يمنية في حركة موت واحدة مترددة متتابعة كموج صامت، كموج عن جحيم في الذاكرة، أو ذاكرة تتفتّح أبداً في ظل رمادي، في طلاسم لا نجد إجابة عنها ولا نجد شكلاً رحيماً. الطفل المرتمي على الصدر العريض لوالده الميت، مزيجاً من شكل ولون اندغما واندمغا حتى ضاعا في بعضهما. إن الكتابة هنا، او الختم على أمر رأيناه، هو هذا المزيج من طفل إستحال أباً واب إستحال طفلاً. تنقل الكاميرا السواد الغامر، وفي كل الأحوال ما تفعلهُ هو هذه المقدرة على ترميد اللون، على إطفاء اللون، على تحويله الى مادّة من أشلاء متناثرة، تحويله الى شيء، الى شكل يقولون أنه الموت. بعض المتجمهرين يقولون للطفل تعال إلينا واترك والدك الى رحلته الأخيرة. لم أفهم لغة الطفل الرافضة. لم أفهمها فهي ما جُعلت للفهم، لكنني اعرف أنه أجابهم ليس بلغة سائلة، ولا لغة تنشأ من جُمل ومفردات. أجابهم الطفل بنحيب مُحتشد بالنكران، أجابهم بكبرياء بسيطة وبدائية. الطفل لصق جثة والده، غير معني بالكاميرا ولا بناس الكاميرا، ولا بالمناشدات التي تُثقل لحظات ذهوله، ولا بالإنفصال عن كثافة اللحظة. الطفل غير معني بالأيدي التي تريد إنتشاله، فهي أيد غريبة مُعلقّة في الفضاء الصغير، بينما والدهُ متروك لرقدته دون سند وكأنه مقتلع من آدميته، من أبوّته، أو أنه محض دمية منفوخة سمينة توازن قلقه، توازن قلق العالم الذي مع ذلك ... صامت. لا يلتفت الطفل الى الكاميرا. يُحدّق فحسب في الدمية التي بلا وجه، يُحدّق في يدها المرفوعة وليست في موضعها وحركتها. الدمية التي لن تعود الى الحياة بدرجة أكبر مما تُرينا إياه الكاميرا. ما هي الأشياء الحقيقية وما هي الأشياء الخيالية التي تنقلها لنا الكاميرا عن اليمن؟ المتفرّج السيء يريد دائماً أن يرى الى المزيد من الموت، المزيد من الميتات في الأفراح والأتراح، المزيد من الأجساد المتناثرة والمُسجّاة، وهي اليمن مصدراً لإذكاء الحالة المرضية للمتفرّج. حالات غدت مرضية بسبب من التبذير الكبير بالموت. لقد غمر العالم الظلام وجُنّ جنوناً مُطبقاً – وليحصل ما يحصل وبأبشع الصور – يقول المتفرّج القاعد أمام شاشة التلفزيون. ماذا يريدون المتفرجون السيئون ؟ يريدون " السطر الأخير " من الحياة التي تدور بعيداً عنهم، يرونها على الشاشات، يريدون لغة العالم السريّة التي تكتنه العنف، أو العبرة، العقار السياسي، وجهة النظر، الأقوى، ثم المزيد من الأموات. المتفرّج السيء يجلس ويُطالب الكاميرا أن تُقشّر له حياة الفقراء. ان تسحلهم. المتفرّج السيء ، عاشق للميتات التي تجري بعيداً عنه، هو عاشق للهياكل العظمية ، للدم، للأجساد المتآكلة، لمجموعة كليشيهات عن النهايات التي ينتشي في حدوثها. المتفرّج السيء مثلهُ مثل الصحفي اللاهث الى " سبق" وريادة في الخبر مدعوماً بنوع من الريبة العدائية ، بنوع من المتعة التخريبية الكامنة في ذبح البشر، بالحاجة الى الفظاعة واليأس والمهانة المتنامية الممزوجة بالغرور والهلوسات، وبحُمى العزلة والشهوة مع التوق الى رؤية الموت بأمّ العين.. ونقله لنا مُعززاً مُكرّماً . الطفل اليمني يحمل والدهُ على كتفه. ليس على كتفه. في حضنه. هو مُلزم بحمله طوال حياته إن بقيت له من حياة، لسوف ما تبقى له من عمر حمل الوالد والبيت واليمن. إن تسنى له أن يكبر لسوف يحملهُ أينما ذهب، في الليل كما في النهار. كل ليلة بعد مجزرة الوالد مفرود الذراعين، كل ليلة بعد الآن، سوف يتقاسم الطفل سريره مع أبيه الى أن يحين أجلهُ في عرس ما، زقاق ما، سوق ما. لا احسبُ أن في " فرجة" كهذه لمُشاهد سوّي، سبراً لنوابض البني-آدميين، سبراً لتفاصيل حياتهم، للوعاتهم ودقائقهم الداخلية، لتطلعاتهم وأحلامهم بوطن سعيد ما، وإن على أقلّ درجة من السعادة. أحسب أننا لا يجب ان نرى الى موت اليمنيين وقد غدونا في ألفة معه الى هذه الدرجة. عندما يعرضون الى صور الموت اليومي اليمني، وغير اليمني، لاأراه إلآ وأنا غريبة عنه وفي جفلة ووهلة منه ومن مُسببيه. لا اراه إلآ بقدر كبير من هلع وخوف. حياة اليمني، وليس شخصهُ فحسب أو موته، درامية في أساسها. إنها صراع ملحمي للكائن البشري في هذا العالم، صراع مع الخارج وصراع مع الداخل، وهي حياته ذات وتائر نفسية ومعيشية وفكرية متفاوتة مُتدّرجة غالباً . في اليمن عالماً ورؤية خاصان، ويملك في داخله أكثر من صوت، صوت الظلم وصوت البطولة. له أيضاً صوت الداخل المنقسم والرؤية الصراعية. على الكاميرا ألآ تقترب من رقدة الطفل الذاهل ووالده المُسجى، ففي الأمر إفتضاحاً رخيصاً للإنسانية بكليتها . ثمة أخيراً مستقبل اليمن لا بدّ ، ما يتخطى التلمذة الكئيبة للكاميرا ويُغيّر في مسارها. قوة ناسه، وشخصية عمارته وعمارة أولئك الناس ذوي البُنية الناحلة والعزم، ما سوف يُتيح لليمن أن يحوّل في الوقت البائس هذا ، وذلك في تمثّل العناصر التي ترد عليه، ويُدرجها في لغة القرن ومنطقه وطريقته، فتغدو هذه " المذبحة" المُرّكبة والإستقطابية ، أكثر قابلية للحياة. تلك أسطورة الشعوب التي تستدعي نقيضها.. والأرجح أن الذات المبتورة والضائعة في الزمن، أحوج الى مثل هذه الأسطورة.... ثم أن النصر قريباً ليس شيئاً نافلاً ..

Comments


Recent Posts
  • White Facebook Icon

Follow me on

جميع الحقوق محفوظة © 2016 لعناية جابر والكتاب المشاركين ، وفي حال الاقتباس نرجو الإشارة إلى الموقع كمصدر

© 2016 by Samer Y. Saab. Proudly created with Wix.com

bottom of page