top of page

سهرة ثانية في هارلم مع " وقائع الحياة السوداء "

  • عناية جابر
  • Apr 2, 2018
  • 3 min read

مضى زمن طويل، زمن العشرينيات وحتى ما قبل ذلك، على ما يُسمّى بموسيقى " البلوز" التي بدت أميركا وطناً طبيعياً لها، صنعها على أرضها ناس تلك الأرض.. السود تحديداً.

المصدر: الميادين نت

http://www.almayadeen.net/articles/opinion/868251/سهرة-ثانية-في-هارلم-مع--وقائع-الحياة-السوداء-/

يمكننا أن نتكلّم عن حواضر أخرى لهذه الموسيقى، لكنها بقيت مجرد حواضر منسوخة، أحبّها ونسخها الرجل الأبيض، لكن " البلوز" الحقيقي، " البلوز" الأسود/ الأم ، بقي مختبراً للموسيقى هذه، وقصرّت " الفرق البيضاء" عن التبلور وتجاوز الأصل عن البلوز الأميركي / الأفريقي، فهي بقيت غير قابلة للتقليد أو التحقّق في أيّ مكان آخر، بعيداً عن فاجعة " العبودية" التي كانت الشرارة الأكثر إلزاماً، والرغبة بالحرية والإنعتاق أكثر نبوية وإتباعاً، وحيث مراس العزف والإرتجال، قطعا شوطاً في الصميمية والجرأة والمراوغة واللعب والمهارة، من الدفع الداخلي والمنظور للشعوب السوداء في إضطهادها، والتي بلغت معاناتها وإرثها من الحزن ، ما جعلها و " البلوز" في حالة صرف إبداعية غير قابلة للتقليد. لطالما وجدت في الموسيقى والغناء العراقيين – كما أردّد في أكثر من مناسبة – ذلك المناخ الواحد الى حدّ، الذي يطبع موسيقى " البلوز" والشجن، على ما أحسب ، هو القاسم المشترك. سوى أن " البلوز" يُشبه ناسهُ، بكل تعاساتهم التي فرضها عليهم " الرجل الأبيض" ، فيما الموسيقى والغناء العراقيين بالشجن الذي يطبعها، تركن أكثر الى إستنباش دواخل العاشقين فحسب، وتستّل منها أكثر " الآهات" وجعاً وعشقاً . الكتابة المُتاحة في موسيقى " الجاز" أوفر للقارىء على ما أحسب، من الكتابة في موسيقى " البلوز"، التي كانت أمراً مألوفاً لدى السود بعد الحرب الأهلية. " البلوز" تشي بالكائن الذي يعاني من الإزرقاق، أو تسكنهُ " الشياطين الزرق" على ما يُقال ، ما يعني استغراق هذا الكائن في حالة إكتئاب فظيعة. موسيقى تستحضر الكدح والذل والفقر والحب، والصعاب التي جابهها السود المُحررون في عالم كان قد خرج لتوّه من العبودية. فبين سنة 1915 و1970 غادر أكثر من خمسة ملايين أميركي من ذوي الأصول الأفريقية الجنوب الأميركي الى باقي مدن أميركا المزدهرة كواشنطن دي سي على سبيل المثال ، كما أتوا من مسيسيبي الى ممفيس في كنوزهم البلوزية وفي طريقهم الى نشر موسيقاهم وخصوصاً الى المركز الأهمّ : شيكاغو، حيث أطلق على هذا النوع من الموسيقى : " وقائع الحياة " كأصل للموسيقى الأميركية قاطبة، إذ أن كل شيء تحت الشمس، كل شيء يزحف أو يطير او يمشي أو يسبح ، يُحّب الموسيقى، خصوصاً " البلوز" الذي يحمل الى جانب الإيقاع .... الحكمة . أنا وصحبي كمستمعين غرباء عن المجتمع الأميركي ، في إحدى حانات هارلم في منهاتن ذات مساء، كنّا نستمتع بهذه الموسيقى ونحضنها – بالرغم من حاجتها الى صقل – لما تفيض به من روح وجوهر. الموسيقى التي شكلّت خلفية لتلك الأمسية النيويوركية كانت لفرقة :" نافخي بلوز رابية المدينة " سمعنا فيها نوعاً خشناً ومُرتجلاً من الموسيقى ( من دون تدوين أو نوتة) وعلى آلات بدائية، حيث شرعت الفرقة بالعزف على الطريقة السوداء المتواضعة لفرق الغناء والرقص في زوايا الشارع. ثمة حرية اللحن في إتباع العواطف الإنسانية ، مُعبرّاً عنها بعزف عال بالغ الجودةوبإيقاع سرعان ما سيطر على كل الساهرين، خصوصاً في رفعة وروعة آلة : " الكازوو" الشجية ، كذلك : " الترومبيت" ، التي شكّلت الواسطة الفعّالة لنقل مشاعر العازفين وأحاسيسهم . كان " الترومبيت" ، للويس آرمستونغ هو الملك الطاغي على ما عداه من آلات، وكنّا نصغي نحن الغرباء العرب المتواجدين في تلك الحانة في الجانب الجنوبي من نيويورك، الى كل جملة ونغمة تنساب الى أسماعنا من التسجيلات، كما لو هي الإطار الخلفي لمرتفعات شعورية عندنا، ولمرتفعات جغرافية لمدينة نيو أورليانز التي شهدت طفولة أرمسترونغ. صحيح أن بعض فرق البلوز اليوم، مُلهمة ووحشية ودراماتيكية، لكن أحدها ليس أكثر ضبطاً وأشدّ روحانية وذوقاً من ترومبيت أرمسترونغ ، الرجل الأكثر شاعرية وحسيّة ، والذي ضحّى في عزفه بالسهولة والراحة من أجل التوتر والإندفاع الآتيين من بيئة سوداء محمومة عايشها الرجل. العشرينيات كانت الأعوام القاطعة التي وطّد بها البلوز شؤونه، الأفضل منها، وبرزت فيها بعض الأعمال والنماذج ، ساعدت على تفسير ظاهرة البلوز وكيفية نموّه وإنتشاره ، الى حين أخذ مزاج العشرينيات الذي ينتشي بالبلوز، الى التبّخر وكان ناس ذلك الوقت سئمت الكثافة الشعورية وتعبت منها ومن الحرارة اللاهبة التي تفّح من تلك الموسيقى ، وأخذت شيئاً فشيئاً الى الميل الى الموسيقى الهادئة المُلطّفة فقط . ليست كل معزوفات " البلوز" أليفة دائماً على الأسماع، حتى على ناسها، فهي لا تخضع لمنطق ما، فتراها أحياناً نابعة من غابات، وقائمة في أرض متشابكة الأشجار والأغصان، أو هي أنين عميق لأيدي وأرجل تُضنيها الأصفاد . في إيحاءت هذه الموسيقى خيال غريب تجده في الأفلام القديمة التي تُعنى بعذابات الشعوب. لكن " ترومبيت" أرمسترونغ الذي ينتصبُ عملاقاً في مشاعرك، أقربُ إليك حين تسمعهُ من ايّ شيء في العالم، مهما بدوت غريباً . إنه باب على القلب، باب على حديث القلب، باب على العذاب والقهر يطّلُ على العالم الذي استقوى على اللون الأسود ويُدينه بضخامة عنصريته وقوته ومعدنه الصلب البلا مشاعر . " ترومبيت" الحق والضخامة ، القوة والرقة، والإندفاع والإمتشاق والتفجّر . ما أن تبدأ ترنيماته وفحيحه حتى نرى الى الشمس والزمن هائلاً شامخاً، الى دين من نوع جديد. والأرجح أن عاشقي البلوز، حين يسمعونها، يجدون أنفسهم فجأة وقد إجتازوا الزمن، كما لو في رحلة الى عذابات السود في رمشة عين .

Commentaires


Recent Posts
  • White Facebook Icon

Follow me on

جميع الحقوق محفوظة © 2016 لعناية جابر والكتاب المشاركين ، وفي حال الاقتباس نرجو الإشارة إلى الموقع كمصدر

© 2016 by Samer Y. Saab. Proudly created with Wix.com

bottom of page