رياض السنباطي: ثراء وتقاطُع وخلق
- عناية جابر
- Feb 19, 2018
- 4 min read
لقد عاش في عصر الكبار المُغامرين، صانعي الروائع، ومنهم استقى هذه المخيلة الثورية اللحنية التي طبعت أعماله الكثيرة والمتنوّعة، وغنّاها الكثير من مطربي ومطربات زمنه، في تسلسل نبيل لنتاجه وعالمه الموسيقي، تسلسل توتير وتوّفز وإمتلاء، وصراع نحو الأفضل دائماً .
المصدر: الميادين نت
http://www.almayadeen.net/articles/opinion/860108/رياض-السنباطي--ثراء-وتقاطع-وخلق/

ليست المُخيلة العاطفية لدى رياض السنباطي، سوى وجه لرؤيا صراعية فنية، وتجتهد الى رفض ونبذ دراميين عاصفين لكل ما هو إستهلاكي في الفن ورديء. لقد عاش في عصر الكبار المُغامرين، صانعي الروائع، ومنهم استقى هذه المخيلة الثورية اللحنية التي طبعت أعماله الكثيرة والمتنوّعة، وغنّاها الكثير من مطربي ومطربات زمنه، في تسلسل نبيل لنتاجه وعالمه الموسيقي، تسلسل توتير وتوّفز وإمتلاء، وصراع نحو الأفضل دائماً . لم تكن الحقبة الموسيقية السنباطية – بملامحها أعني – هي تماماً الحقبة القصبجية ( محمد القصبجي) في العلاقة بالسيدة أم كلثوم . صحيح أن رياض السنباطي استلهم محمد القصبجي في مثل :" غُلبت أصالح بروحي " المنسوخة بأجزائها اللحنية الروحية عن :" رقّ الحبيب " للقصبجي، سوى أن السنباطي خلّف لنا الكثير من المآثر اللحنية ، ما يسمح لنا في هذه المقاربة السريعة ، من الرجوع إليها وتسجيل بعض الوقفات والمفاصل فيها ، لنقارن ونرى الى روعة تلك الوديعة التي تركها المُغنّي والملحن الكبير لعالمنا العربي . بصخب لحني، بتدّفق لحني ، بآلام وقرابين وتضحيات ، دامت رفقة رياض السنباطي وأم كلثوم ما ناهز الأربعين عاماً، رفقة لم يتخللها سوى " خصام " لم يتجاوز السنتين، خصام مرّدهُ الى عادة السيدة في التدّخل في كل " صغيرة وكبيرة" وخصوصاً في الكلمات التي يختار السنباطي تلحينها لها ، غير أن الأخير على الرغم من استيائه من تدّخلها، كان يقّر لها ويعترف بذائقتها العالية : " لأنها حفظت القرآن، وامتلكت ثقافة قرآنية تدّلها على الكلمة الجميلة ." كان السنباطي صارماً في السلوك الفنّي، ومتحفّظاً لدرجة أنه لم يحضر يوماً حفلة من حفىت أم كلثوم، ولم يؤثر عنه علاقات إجتماعية، بل كان منصرفاً لفنه، ولزوجته وأولاده. أم كلثوم التي عُرفت بالقوة والسلطان، إحتفظت له بمكانته الأثيرة عندها للأسباب التي ذكرنا، وهي حين توّقفت عن الغناء للكبير القصبجي، وإختصمت مع الشيخ زكريا العظيم ، إنفردت بألحانه ، ولأجلها صاغ السنباطي ملامح أسلوبه الخاص في التلحين. السنباطي المولود سنة 1906 في بلدة فارسكور/ دمياط ، لشيخ مُقرىءيجوب الأرياف يعزف على العود ويُغنيّ التواشيح الدينية، ورث رخامة صوت والده وحلاوته، فكان ينشد صحبته حين يصطحبهُ والده معه، أغنيات لمحمد عثمان وعبده الحامولي . في أسلوبين إثنين من أساليب التلحين التي طبعت أعمال رياض السنباطي حين دخل المعترك الفنيّ ، نرى عند السنباطي " كلثومياته " المؤثرة والواضحة، كما نرى الى السنباطي غير الكلثومي، الذي يشكّل نتاجه فيه، نصف ميراثه اللحني الإبداعي، الذي رفد المستمع العربي بصنف آخر من ألحانه غير الذي تعوّده مع أم كلثوم ، بل لنقل أنه يختلف الى حدّ عن كلثومياته، كمثل تعاونه مع ليلى مراد في الكثير من الأغنيات نذكر منها:" مين يشتري الورد منّي " ومع أسمهان :" أيها النائم " وصل فيها اللحن الى واحدة من ذراه اللحنية، الى نجاح سلام التي حظيت منه بإثنتين من أجمل أغنياتها :" عايز جواباتك" و " أنا النيل مقبرة للغزاة" والأخيرة كانت من أجمل الغناء الوطني في أثناء العدوان الثلاثي على مصر.، أيضاً لحّن لنور الهدى وسعاد محمد وفايزة أحمد ونجاة الصغيرة وعبد الحليم حافظ ومحمد عبد الطلب وعبد الغنّي السيّد الى آخرين .. كما شاءت الأقدار أن يضع لحنين لفيروز قبل رحيله من أشعار جوزيف حرب . في منحى آخر، يُعدّ السنباطي من اعظم تلاميد الموسيقار محمد عبد الوهاب في الغناء على وجه الخصوص، ولا يمكنك أن تستمع الى " فجر " و" أشواق " وساها الكثير الذي ترّنم به السنباطي، ولا يحضرك الأسلوب الوهّابي في الغناء الرومانسي، المهّب الألفاظ، الدقيق المخارج، المُقتصد في العُرب، الجميل النبرة، المرهف التذوّق، وفي صوت السنباطي قال محمد عبد الوهاب :" لو لم يُغّن السنباطي غير قصيدة " أشواق " لحقّ له أن يُعّد مطرباً كبيراً " . سوى أن السنباطي كان مُقّلاً في الغناء، بل هو إنصرف عنه في ما بعد الى التلحين فحسب . في الشكل الموسيقي، أخذ السنباطي الكثير عن عبد الوهاب المُبتكر والخطير في الأشكال الموسيقية . تأثر السنباطي – والتأثر ليس نقيصة بل إجتهاد وانفتاح – بعبد الوهاب ، وبالقصبجي لا ريب ، لكن أثر الشيخ زكريا أحمد فيه كان أقّل بياناً. هذا التأثر الذي وسم الكبار كلهم ، لم يمنع السنباطي من إبتداع سبيله اللحني الخاص، الواضح على وجه الخصوص في كلثومياته التي إنفردت بألحان نحت النحو العالي القيمة على ما يحب السنباطي ، وهي اتخذت إيقاع البحور الشعرية العريضة التي استساغتها ذائقة " الست" ، كما اشتغل على إيقاع الكلمة العربية الفصحى ذات البيان والوقار . هذا لم يمنعه على ما ذكرنا في غير كلثومياته من استدراج الكلمة البسيطة المغناة ولكنها كانت فحسب للكثيرين والكثيرات من المطربين الذين تعامل معهم ، وغنّى " ديو " معهم ، ما عدا بالطبع أم كلثوم . نسمع للسنباطي :" شمس الأصيل" و " مصر التي في خاطري " فتتبدى وجهة نظره العبقرية في الموسيقى العربية المعاصرة ، وجهة نظر إستطاعت أن تجد لها مكاناً رحباً في تاريخنا الموسيقي العربي . التلوين السنباطي إذن، مُتعدّد متناقض ، ليس بناءاً واحداً ولا نظاماً واحداً . السنباطي كملحن سار بين التناقضات، وكمفكر موسيقي لعب بالتناقضات، وعلى كل حال، هي أدوار عدّة لعبها الرجل للدلالة على مُكنته، وفيها تقمّص فخامة المعاني ورفعتها ، والدينية وروحانيتها ( وهذه نفرد لها مقاماً خاصاً من جودتها ووفرتها) الى تلك العدمية اليومية للحب في عادياته ، سخريته وظرفه وخطورته، وأمكن للسنباطي في حقبة ما ، ان يكون كل ذلك، وأن يدعو لكل ذلك معاً. هي حقبة ثراء وتقاطع وخلق، فلنسمعهُ ونتأمل ونُقارن في ما آلت إليه أحوالنا الفنية . . .
コメント