top of page

الشيخ زكريا أحمد: أصالة وكبرياء

  • عناية جابر
  • Feb 14, 2018
  • 4 min read

لم أفرح يوماً كما فرحت، ولم أتهيّب يوماً كما تهيّبت، حين تأتى لي غناء : " الليل يطوّل ويكيدني " يوماً على مسرح : الأسمبلي هول- الجامعة الأميركية ، في بيروت.

المصدر: الميادين نت

http://www.almayadeen.net/articles/opinion/858779/الشيخ-زكريا-أحمد--أصالة-وكبرياء/

هذه الأغنية التي سبق لي أن غنيّتها، ولاقت استحساناً حتى من الفئات العمرية الصغيرة، مدخلي هنا الى مقاربة سريعة لأعمال مُلحنّها الشيخ زكريا أحمد، المنحاز أبداً الى موسيقانا الشرقية العربية الصرفة، وكانت هذه في روحه وأولوية الأولويات. غنيّت "الليل يطوّل ويكيدني" ، وكان لحنّها سنة 1931 وغنتها السيدة أم كلثوم، وبدأها الشيخ زكريا بإيقاع مُعقّد غير معهود في ال " طقاطيق" متوخياً تحقيق التطوير الملحوظ في بُنية الطقاطيق، هذا النوع من الغناء الذي لايقّل فنية وتطريباً عن تلحين القصائد والأدوار والأغنيات ، وهي تتفوّق عليها أحياناً في السكب اللحني وترجيعاته، والبشارف التي تسندها، إذ يكفي أن نعرف أن " الورد جميل" و " هوّه صحيح" و " جمالك ربنا يزيده" و " اللي حبّك يا هناه" و " أهل الهوى"، وهي في باب ال " طقاطيق"، وقد يكون هذا التطوير ، الذي عمل عليه الشيخ زكريا ، بمثابة بصمة شخصية ، وناسفة لكل المقولات التي تصفه ب : التقليدي والأصولي والمُعاند للتجديد. ثمة في " الليل يطوّل ويكيدني" تلك الفتنة اللحنية التي تُميّزها عن باقي الطقاطيق ، والمتمثلة في أن مذهبها آهات صافية من دون كلام ، " آهات فحسب يرددها المذهبجية ومختومة كلها بكلمتيّ " غصبن عنّي" فيما أن الأغصان ذات الألحان المختلفة وهي ثلاث وتبدأ كل منها ب " صبّرت قلبي" و" ليه ياغرامي " و " مين اللي يقدر " التي تترك لصوت المطرب أو المطربة إنشاده المُريح والحّرليأتي " المذهب بين هذه الأغصان ، أي تلك الآهات ولا شيء سواها ، في استرسال لحني وحركة غامضة، صامتة من دون شكوى، فاتنة في صمتها وغموضها. لمن يخلط بين التطوير والتخريب ، نقول أجل وبكل تأكيد ، كان الشيخ زكريا منحازاً الى موروثاتنا الموسيقية ، التي لم يكترث بعض " المُجدّدين" !! الذين عملوا على التجديد في الرغبة الدونية الى تقليد الموسيقى الغربية أو محاولة الإستفادة منها ، لنقع على ذلك الهدم الواعي أو غير الواعي، المُتعمّد أو غير المُتعمد على ركام موسيقى لا حيلة لنا معه. لقد قلبوا بالكامل فكرتنا عن الموسيقى الشرقية بكل غناها، بتلك الرطانة اللحنية المعارضة التي أثقلت نتاجاتهم الهجينة ، ما دفع بالشيخ زكريا الى أن يُبدي كل العناد في خروجه المُدوّي عن هذا المفهوم . وجد الشيخ زكريا ، أن في أعمال هؤلاء المُجددّين ( بعضهم بالطبع) ما يُكبّل الموسيقى العربية ، ما يجعلها في إنتماء أقلّ، وحرية أقلّ، وأصالة أقلّ، وهواء أقلّ، وبالنهاية جمال أقلّ . في ملامح فن زكريا أحمد ، وعلى غير ما قيل عنه، التطوير المتبّصر لبعض أشكال الغناء العربي، لكن من دون المساس بالآلات الموسيقية العربية ، أو المقامات العربية أو الإيقاعات ، أي عدم الإستعانة بأية آلة أجنبية في " تخته" الموسيقي وفي تلحينه ، وهو بذلك حفظ المضمون وبدّل في الأشكال ، وأميناً دائماً على أصالة الأشكال ، وقلما إهتّم بمن كان يقول عنه بأنه رجعياً في الفن ، فكبريائه ووفائه لمزاجه أولاً، ولما يعتقده ويؤمن به ثانياً، جعلاه لا يحيد قيد أنملة عن طريقته وعمله في التلحين ، وحتى في الغناء بصوته ، إذ لم يكن الشيخ زكريا عواداً من الكبار فحسب ، بل ومُغنياً من الأوائل في عصره، ذلك ان الكثير من الأغنيات كان لحنّها لنفسه، قبل إنصرافه وبشكل شبه نهائي الى التلحين دون سواه . من التسجيلات بصوت الشيخ زكريا ونحسب أنه الأفضل مونولوج :" البلبل إن طوّل هيامه" ، كما كان أوّل من غنّى له ، قبل أن يبدأ عهده الطويل مع أم كلثوم ، صالح عبد الحيّ وعبد اللطيف البنّا ومنيرة المهدية وفتحية أحمد وغيرهم من الكبار في عالم الغناء في ذلك الزمن . كان الشيخ زكريا أغزر الموسيقيين العرب تلحيناً في العصر الحديث . عمل زكريا لثورة 1919، ثم أمضى ثلاثاً وثلاثين عاماً يدفع ثمن موقفه هذا . للشيخ زكريا كتابات أيضاً في تحليل ثورة عُرابي وثورة زغلول ، ضمنّها مشاعر ومعاني وطنية صادقة، تنسجم من دون ريب مع وفائه للموسيقى العربية ولسائر الفنون وكان من أكثر المقربيّن إليه الشيخ درويش . شجاعة بالطبع . شجاعة وقوة موقف بالتأكيد، مهما كان الأمر وكان الثمن فإن مثل زكريا أحمد قويّ ومؤثر. نعزو حظه السيء الذي كان يسخر منه ويتندّر عليه هو نفسهُ الى مواقفه بشكل عام . مواقفه من الحياة ومن طريقة معالجته لهذه الحياة . في الموسيقى تحديداً ، نرى الى موقف كبير في ذاته، بصرف النظر عن فلسفته، كبير وصاحبه وحيد فيه إذ إنه خروج مدّو من دوامة مُضللة ، لكن أحداً لن يرافقهُ في مشواره. لقد أُعجب محمد عبد الوهاب ورياض السنباطي وسواهما بصدقه وعدم مهادنته ، سوى انهما بقيا على انتقاده في الشأن الموسيقي. لن تتُاح لنا الفرصة بعد نحن من أُعجب بقوة عناده ومن أحبّ مواقفه ، لمفاجأة مماثلة من حجم زكريا . زكريا الذي رغم المرارة الشخصية( انتحار ابنه الشاب، خلافه الطويل مع أم كلثوم) والفنية ( تهميشه) لن تعنيه المسألة ( قلة الحظ) كثيراَ، ولن يعنيه التقليد، ولا المجاد ولا زعل الست منه الذي دام لسنوات طويلة . لقد استنفد الشيخ زكريا رسالته كلها في مشهد : الإبداع من حواضر البيت ، لا بهارات غربية ولا لمسات من هنا وهناك تُسيء الى الطعم الأصلي . رحل الشيخ زكريا مع ذلك الرفض القاطع ، الصاعق، وترك للمجددّين أن يفعلوا ما شاؤوا. لقد وثق بالموسيقى العربية ورفدنا منها بالألحان الرائعة ، ثم خلفّها لنا بكل زخم الجمال الذي فيها ومنها . لقد بلّغ شهادتهُ ولا يزعجهُ أنه فعل ، وحدهُ المثل الأخلاقي كبير هنا . .

Comments


Recent Posts
  • White Facebook Icon

Follow me on

جميع الحقوق محفوظة © 2016 لعناية جابر والكتاب المشاركين ، وفي حال الاقتباس نرجو الإشارة إلى الموقع كمصدر

© 2016 by Samer Y. Saab. Proudly created with Wix.com

bottom of page