برامج الأطفال الغنائية : كلاسيكيات القرن في الحناجر الصغيرة.
- عناية جابر
- Feb 6, 2018
- 4 min read
الأطفال بأصواتهم الجميلة فعلاً، وبالمضامين الراقية لإختياراتهم الغنائية، يؤجلون قلق الحياة الذي يغشانا، يؤجلونهُ ولو الى حين، وينفحون أمسياتنا ذلك المذاق العذب للحبور الذي على ما يبدو غادرنا الى غير رجعة.
المصدر: الميادين نت
http://www.almayadeen.net/articles/opinion/857129/برامج-الأطفال-الغنائية--كلاسيكيات-القرن-في-الحناجر-الصغيرة/

من الفضائل النادرة للتلفزة - بالنسبة لي - ، عدا عن رغد الإبحار في عوالم ال " ناشيونال جيوغرافيك"، تلك البرامج الوردية والزرقاء ، التي تُضيء عالم الأطفال، مواهبهم، فنونهم، أصواتهم بشكل أدّق . هذه البرامج الأجنبية منها والعربية، لايُحسن أن نُدرجها في هيكلة البرامج التافهة والمأجورة والمُهللة في عالم الكبار، ولا نعرف لها محلاً في مجرياتها، سوى إنها تُشبهُ في إمتلائها وإستدارتها ، رأفة مرجوّة و.. رحماً . كأن السهر الذي يحمل إلينا مثل برامج الأطفال هذه، كما لو ليس من عاديات السهر، وعرضه هذا ليس من عاديات العروض، فالبرامج المعنية بتظهير مواهب الأطفال عزفاً وغناء، تنتمي الى عالم الطهارة أكثر مما تنتمي الى ما نعيشهُ. إنها بقية من الخير، وبقية من حياة النقاء التي غادرناها. الأطفال بأصواتهم الجميلة فعلاً، وبالمضامين الراقية لإختياراتهم الغنائية، يؤجلون قلق الحياة الذي يغشانا، يؤجلونهُ ولو الى حين، وينفحون أمسياتنا ذلك المذاق العذب للحبور الذي على ما يبدو غادرنا الى غير رجعة. في حضور الأطفال وفي أصواتهم الواعدة الجميلة، إحساسهم ، رهبتهم البريئة أمام الكاميرا، أمام الحضور الكبير واللجنة التحكيمية، الأضواء والبروجكتورات والفرقة الموسيقية، ما يُطيح بجبروت الحروب التي تدور ليس بعيداً منّا، ما يقوّض النفاق، الإبتذال وبرودة الوقت والقلوب، وبلادة العصر الروحية والثقافية والفنية والإنسانية بشكل أدعى. يتقدّم الطفل، وهو غالباً في التاسعة من عمره أو الثالثة عشرة أو أكثر أو أقلّ قليلاً، يتقدّم الى ال " الميكرو" ، يرفعهُ بيده الصغيرة ويُدنيه من فمه بيد مرتجفة، فلا يُخيّل إليك لحظة، أنت المقتعد كنبتك في بيتك، أن صاحب هذا الجسد الصغير، سوف ينقلك على أثير صوته الى جنتّك الموعودة. يبذل الطفل صوته من أجلك في أغنيات يوشك بؤس الوقت ان يقضي على تردداتها ، وعلى ذاكرتها في رأسك وسماعك، وها هو طفل صغير لم يشتّد عوده بعد يسكبُ في اذنيك أحلى ما غنّت أم كلثوم ، صباح فخري، ليلى مراد، فيروز، محمد عبد الوهاب، عبد الحليم حافظ ، ناظم الغزالي ... وآخرين . قد يكون هذا تبسيطاً ، وقد لا نجد في الصوت المواصفات الكاملة، أو هو يُقصّر عن الإمساك ببعض المقاطع والقفلات، سوى أننا لا شك نقع على الإحساس الطالع من الهيكل الرقيق، نقع لا بدّ على قصة حب جارف بين الطفل ومادته الغنائية، والبطل تماماً هنا هي الطفولة . إن الحب ، الحب بلا مقابل، الحب الى حدّ اللعب صفة الطفولة ونُذرها . الطفل الذي يقدم لنا مقطعاً غنائياً ( أو الطفلة ) نراه أثناء الآداء كما لو يطير الى حيث كان الغناء غناءاً، يتسلق الماضي بعد أن ضاق بالحاضر المشوّه المريض. نسمعهُ يستدرج الغناء بلثغة الطفولة، ويتحايل على المقاطع ، ويخّفُ من مقطع الى آخر بثقة العارف والفاهم، يصل الى السماء مُغردّاً، ويُلاعب الآلات الموسيقية العازفة لا يهابها صوته ولا يخشاها. طفل في أمسيات تجاوزت أوقات رقاده، أمام جمهور عريض وأمام لجنة تحكيمية ذات باع في الغناء وأصوله ( ولست في وارد إطلاق أحكام قيمية لبعض أعضاء اللجان هذه سواء لناحية الأهلية أو عدمها) طفل يتقدّم الينا ويُهدينا بصوته بعض كلاسيكيات القرن الماضي ، وبعض غناء هذا القرن، مستعيراًحناجر ذهبية غادرت عالمنا، وأغنيات مُحكمة التكوين لحناً وغناء،تستعصي على الكثيرين والكثيرات من مُغنييّ اليوم ، وعلى بعض من أعضاء لجنة التحكيم أحياناً مع إحترامي للجميع،، لهو أمر لافت يستدعي التوقّف ويبعث على الفرح الغامر أولاً، ثم على الدهشة وأحياناً البكاء من سعادة الإكتشاف ( كما افعل على سبيل المثال) فتروح تعزو إختيارات الطفل الغنائية الراقية الى أهل هذا الطفل والى البيئة التي ترّبى بها ، والجوّ والمزاج الراقيين اللذين أحاطا بموهبته هذه من صقل وتوجيه وإهتمام . وسواء كان الأب أو الأم أو كليهما معاً، أو الميط العائلي الأبعد على أكثر تقدير، وتستطيع أن تُخمّن بعدها أنها عائلة سعيدة مادامت ترعى بحدب طفلها في هوسه الروحاني البديع. في الفنون كافة ، ثمة ثقافة النضال ضد البؤس والجهل والركاكة ، ثقافة يسعها أن تدّل قلوب الجيل الجديد، على المدى الشاسع للجمال والخير ، وعلى العناصر الأولى لإحترام الذات وإحترام الأوطان بالتالي، ومعرفة ماهية بناء مداميكه . نُهلل للأطفال في شدوهم الملائكي الذي يبهرنا، من دون أن ننسى محاذير كثيرة تُحيق بمثل هذا النوع من البرامج التي تُمسك بأقدار براعم مازالت في طور تفتحها، تُمسك بأقدارهم وتزن بالدرجة الأولى مقدار مردودهم المالي على الأقنية التي تستضيفهم. ثمة إنعكاسات نفسية سلبية على الأطفال الذين يخونهم الحظ في تصدّر مجموعتهم. إنها شروط " اللعبة" نعرف، لكنها تترك لا بدّ ندوباً قلّما تمّحي عن روح ومشاعر الطفل الخاسر. كذلك الأسئلة تطوّقنا حول معنى أن يُغنّي طفل في برنامج تلفزيوني، بل ويُبدع في الغناء ، ثم يُترك الى مصيره المجهول من دون إحاطة مستقبلية، أو مواكبة ذات تبصّر تنسحب على مدى واسع تُدلل تلك الموهبة وترعاها. تنتهي السهرة ، وينتهي الطرب، ويؤوب الطفل الى فراشه مُجرداً إلإ من صوته ومن تلك البروق اللامعة التي غمرته، والتي يعمل ما تبّقى من ليله على استعادتها وتذكرّها ، من دون أن يهتدي الى فجر صحيح يليق بموهبته وتفانيه اليها. على اللجان التحكيمية ، والأهل والقيمين ثقافياً وفنياً في البلد، مدّ يد العون لتعزيز تلك المواهب. حياة بحياة تلك هي المعادلة. المُخلّص والخلاص يأتي عبر اليد التي تأخذ بأيدي البراعم في درب رحلتها الطويلة، فالإحتضان يستحق أن يكون غرض القيمين على مثل هذه المواهب، وإلإ فإنها "سهرات " فحسب، سهرات تُمتعنّا من دون أن تُمتّع أصحابها .
Comments