top of page

حين غنّى وديع الصافي " يادي النعيم يا قلبي "

  • عناية جابر
  • Jan 28, 2018
  • 4 min read

.. في صوت الصافي ذلك الإنسياب للمسافات والخطوط الأفقية والجوفية للغناء.

المصدر: الميادين نت

http://www.almayadeen.net/articles/opinion/855634/حين-غنى-وديع-الصافي---يادي-النعيم-يا-قلبي--/

في بدايات إشتغالي في الصحافة أذكر بحّب المطرب الراحل وديع الصافي، في الطابق الأرضي من دارته في الجبل، مسترخياً على كرسيه، لمّا أنا وزميلي المصوّر في زيارته لإجراء مقابلة معه لصالح الجريدة التي نعمل بها.

زميلي " يتكتك" الصور، طوال الوقت الذي إقتضاه حديثي مع وديع الصافي، والأخير يتململ من سطوة الكاميرا وغوايتها، ويجد تبسيطاً كبيراً في إعتبار " الصور" بشكل عام سبباً في إنجاح المقابلة، كما يجد رهبة في الوقوع في أسر الكاميرا التي تُخّلد اللحظة ولا تهدر منها جزئية أو ملمح: " خلصّونا صور بقى بدنا نعرف نحكي".

حين إنتهى زميلي من حاجته الى " البوزات" إقتعد كرسياً على البلكون خارجاً، وكان الطقس دافئاً، أشعل سيجارة مستعجلاً في سرّه العودة الى الجريدة للعمل على الصور وتظهيرها. وديع الصافي وفي حركة مستنزفة من كمّ الأسئلة التي صببتها عليه، اسكتني بحركة لطيفة معلناً إنتهاء الحوار:" ولو!! روقّيها علينا" ثم في تحوّل غير محسوب من حال الى حال، إنفردت أساريره فجأة وبادرني بالقول: " دخلك، ناوليني هالعود بدّنا نغنّي هلكت من الحكي" . من جهتي تلقفت طلبهُ، ووجدتني أطير كطائر أفلت من فخ مرصود، لألتقط العود من على طاولة في أول البهو، واحملهُ الى " الأستاذ" مع تلك النظرة المستجدية ، كما ذلك النوع من التحريض الروحي على العزف والغناء : " ياريت نسمع شي يا أستاذ قبل ما نمشي". بخطوتين عريضتين إجتاز زميلي المسافة ما بيننا، واحتّل مكانهُ على كرسي بالقرب منّا، بعد أن تناهت إليه " دوزنة" على العود، شرع بعدها الستاذ في نحنحة ودندنة خافتة ، موصولة من دون كلمات، تفتح لصوته عالمه الخاص، وتساعدهُ على الإقلاع من نقطة معيّنة.

كهرّة لبثت قربهُ، محدسة سماع أيّ من أغنياته التي نعرف، لكنه أطلق صوته العريض القليل الرنين ب ال " ديو" الذي يغنيه الموسيقار والمطرب محمد عبد الوهاب مناصفة مع المطربة ليلى مراد :" يادي النعيم اللي انت فيه ياقلبي من بعد العذاب/ كان لك حبيب ترتاح إليه وارتّد لك بعد الغياب..". كان عليّ ان أُهدّىء خفقان قلبي ، انا التي احبّ جداً هذا ال " ديو" بين محمد عبد الوهاب وليلى مراد ، وأشعر لدى سماعه بخصوبة الموسيقى والغناء كما لو مطر استوائي يهطل فجأة، فلا تختبىء منهن بل تستسلم وتخلد لفتنة الأشياء التي تحضر في غير أوانها، الى أمر آخر ارتبتُ فيه :" هل يعرف وديع كم أحبّ هذا النوع من الغناء فأوقع قلبي في هذه المكيدة اللذيذة؟ إذ كنت وابي كثيراً ما نشترك في حركة تبادلية في غناء هذا ال " ديو " تحديداً.

أمّا كيف غنّى الصافي " يادي النعيم" حينها، فهذا لن أنجح في مقاربتهُ هنا، لكنهُ الصوت الذي نحدسُ أنه لا يغنّي سوى أغنياته، الذي نتوّهم أنه ثابت في استرجاعات لبنانية صرفة، بذل حنجرته المطواعة في تحريك المفردات، ما جعل الغناء أوفر كرماً ، واستحال الغناء مطراً.

كنتُ في حالة من غنمت كنزاً. فأنا قلما سمعتُ وديع الصافي ، سوى في أغنياته اللبنانية الحلوة التي نعرفُ ونُردد، لذلك أجهل تماماً ماهية مشاعري في تلك اللحظة لمّا كان يُغنّي المصري ، ويُعملُ فيه صوته كالساعة دون خلل، ودون جُهد تقريباً، وبحرفية عالية حيث خبرتهُ تدمج الجُمل الطولية المديدةالتي يقولها محمد عبد الوهاب ، بالجُمل الرنانة القصيرة التي تقولها ليلى مراد ، مُعترضاً صوته كل حركة خارج هذا الغناء ، وكل نشاز. ليست فقط " يادي النعيم" بل أتبعها بمقطع من دور للشيخ سيّد درويش : " أنا هويت وانتهيت .. وليه بقى لوم العذول؟ " فكان ان أوشك ان يُجهز عليّ .

في صوت الصافي ذلك الإنسياب للمسافات والخطوط الأفقية والجوفية للغناء. الصافي لا يبذخ في آداءاته ، فالبذخ الحقيقي في طبيعة الصوت نفسهُ. صوت أزرق بلون الزمرّد يسبح بين السماء والأرض. وصوت قويّ وماهر، وخفيف ونحيل ومُخادع يعترض فضاء أذنك بدون ثقل ولا وزن وكأنه تقريباً بلا مادّة، فقط هذا الأزرق كإنفلاشات نورانية متوالية.

صوت وديع الصافي يُفتنني، ولكنه في تلك المرّة المباركة التي غنّى لنفسه فيها :" يادي النعيم" وغنّى بالمرّة لي ولزميلي مادام قد تصادف وجودنا في عزّ مزاجه الغنائي، وجدتهُ مدخلاً حقيقياً الى فرادة صوته، ووجدت في تلك السانحة السريعة والمباغتة، وعياً استثنائياً للغناء في كافة أصنافه.

لا أعرف ماذا دعاني الى أن أبدأ صوت وديع من هذه الذكرى البعيدة، وهي ليست في عُرف صوته القوي دّالة ولا فريدة. الأغلب أن ليس في ذكرياتي شيء أكثر تواتراً منها، فقد كنتُ صغيرة بعد، ومبهورة بحضوره وصوته، ثم أن يُغنّي لي ، او أمامي شخصياً ، أغنية مصرية أحبّها وأغنيّها مع أبي ، كان كفيلاً بأن أدوخ طرباً، ثم تأخذني حياتي العملية " الإعلامية" .. وانسى.

أجد تلك الذكرى – وأنا أستمع إليه الآن في أغنياته :" لا عيوني غريبة " و " النجمات صاروا يسألوا شو نفرّك مني؟" أنها تعويذتي لإستعادة أحلى اللحظات، والتي لم يسعفنا الذكاء، لا أنا ولا زميلي على تسجيلها ، أو لعلنا خشينا غضبه وتوّقفه عن الغناء.

خسرنا وديع الصافي، خسرنا صوته الماطر، الجنائزي والفرح في آن في كامل الجبروت وكامل الحنان. إنه ايضاً صبر الأصوات ، الصبر الذي يكون في حقيقته ابن الغناء الفائق الوصف.

المقاطع الغنائية عند الصافي تنهض شاهقة رقيقة منحنية ومائلة ، في نوع من لعبة توازن مستمرة ، لكنها أيضاً مُتعامدة مُصطفّة فيما يُشبهُ دائرة ، تقوم فوقها مظلة هائلة صوتية تسمح لسامعها بالظّن أنه وقع في الغرام فجأة . خسرنا الصافي ، الغناء الخالص المقطوع عن كل الهنّات ، الملىء بذاكرة البيوت والحقول والأوطان والنساء الجميلات ، الشبيه بقرية بالغة البداءة ، في مكان وزمان مجهولين .

Commentaires


Recent Posts
  • White Facebook Icon

Follow me on

جميع الحقوق محفوظة © 2016 لعناية جابر والكتاب المشاركين ، وفي حال الاقتباس نرجو الإشارة إلى الموقع كمصدر

© 2016 by Samer Y. Saab. Proudly created with Wix.com

bottom of page