اليمن حائط متعب متكىء على أرض متعبة
- عناية جابر
- Jan 15, 2018
- 4 min read
ولا صورة يمنية ترسم إنزياحاً ولو بسيطاً عن الموت. كل مشهد رُسم وحدهُ وإن بفكرة الفناء نفسها. صنعاء، تعز، صعدة... الغيوم اللولبية، والدوامات الفضائية. أكثر من ألف يوم من القتل، وأكثر من ألف ليلة أمام الشاشة، أبكي من دون صوت، والعالم من دون صوت !!
المصدر: الميادين نت
http://www.almayadeen.net/articles/opinion/852661/اليمن-حائط-متعب-متكىء-على-أرض-متعبة/

كتبتُ نصوص شعرية كثيرة في حب بيروت. أبقى أحبها وأكتب فيها على الرغم من إختلاف أطوارها إذ كان للشعر شأن بالأطوار. كل ما كتبته في بيروت وعنها يبقى صالحاً ومحض حب، وقلما إهتّز الشعر حين يكتبُ في الحب. عرفتُ عواصم كثيرة، عربية وغربية، ووقعت في غرام بعضها، لكنني لم أمنحها نفسي ولم أخن بيروت. ليس هذا من وفاء مطلق، ولكن لأن بيروت في أقسى أطوارها، تمنحني لاتزال بركة الشغف في معناه الذي أوسع من أيّ شغف، وأنني أواصل بعد دهوراً( بمعنى ما) في الشغف الذي لا ينتهي. كتبتُ في بيروت لأنها مدينتي، وكتبت في القاهرة التي أوقن أنني ولدت وعشت فيها في حياة سابقة. كتبتُ في سوريا التي أحبّ، وفي باريس وأميركا وروما والدانمرك والسويد وإسبانيا والمغرب وتونس والجزائر وعُمان.. الى بلاد أخرى. كتابة في المدن لم تتعدى ما يُشبه أدب الرحلات والعين الزائرة والنظرة السياحية المخلوطة بعاطفة ما، أو جمال ما، وأثر ما . عموماً كتبتُ في البلدان التي زرت. لم أزر اليمن فلم تتسنى لي الكتابة عنها. لم ازرها.. منعتني عنها مشاغل ومواقيت على علاقة بعملي وبالصدف البحتة غير السارة. لم أزرها وأجد أن نصوصي اليوم تغصّ بها، وارى في النصوص حضوراً باهظاً، لليمن، لناس اليمن، لمن تبّقى من ناس اليمن، لأطفالها ولميتات تتنوّع ما بين جوع ومرض وسحل. اليمن بلد ليس في الليل ولا في النهار. لا في الحياة ولا في الموت. ما الذي يجعل العالم بأكمله يسكت عن حاضر اليمن المعّلقة حيتة ميتة، ناسها أرواحاً وأجساداً بالية كما لو خيالات على جدار الدنيا. كتبت سابقاً عن أطفال اليمن بميتاتهم الجحيمية وأكتب كل يوم عن اليمن لأنني لا أملك سوى كتابتي، ولأن كل يوم مجزرة وما من ينبس أو يُشير. المجازر اليومية ليست تماماً نهاية قائمة بنفسها، إنها متعلقة ببعضها، فهي على شاشات التلفزة أقرب الى صورمتحركة، متسارعة عن بلد يموت. لم تحمل نصوصي أو كتابتي عن البلدان التي زرت أو مكثت فيها لمّدد تتراوح بين القصر والطول، سوى التهليل للحياة والغوى والصداقة والسحر، وغفلتُ قصداً ما يوجعُ أو يُسيء، فلم يكن الموتُ رفيقاً أو زائراً دائماً . الألم الذي تحملهُ نصوصي عن اليمن التي لم أزر، كما لو جمّعتُهُ من أعمار كثيرة وأسفار ومدن كثيرة وخبأتهُ جيداً ليحتفي بهذا الموت الكثير . على الشاشة ، ثمة خيال مدينة أنهكتها الصواريخ، مدينة تسقط عن أكتافها الأشباح المخيفة، أو تسقط عليها، أو تُحلّق فوقها. الكاميرا تنقل بورتريه مطموسة بأرض مفلوحة بناسها المتشظين هنا وهناك. في الحفر أسمال فحسب إذ لم يبقى من الأجساد ما يشهد، في الحفر حيث لا ينظر أحد، أو حيث نسترّق النظر الى حياة واطئة مضت كانت تدّب برعب على الأرض الرمادية. تبّث الشاشات كل ليلة، كل ليلة حرفياً، مشاهد دامية تهرب من أيدي الرب وتتسرّب في قاع الجحيم. حربٌ لمجرد الحرب، حرب للقتل بلا اسم ولا غرض. حربٌ تتفنن في إبادة الأطفال، وتقتل بخيلاء مجنونة أيّ تجمّع تحت عناوين الأفراح والأتراح. حين كتبت في القاهرة، نصوصي عن القاهرة أعني، حضرت العاطفة وذلك النوع من السلام المُعطّر، حضر الحسين وحضرت روح المدينة وعبقها وعلاقتي الوطيدة بناسها. في باريس عبقت النصوص بالجادات الفارعة والمقاهي الرهيفة وغرامي باللون الرمادي الذي ينذر بالمطر، وحضر ال" بونبون والشوكولا والورد" . في روما غلبتني العاطفة وكتبتُ في العاطفة التي غلبتني. وفي اسبانيا حضر السحر وحضر الحب الخفيف وحضر الناس الذين يُشبهوننا بمشاداتهم وأصواتهم العالية وموائدهم وصباحاتهم المبهجة ولياليهم الموّقعة بالأقدام والأجساد الرشيقة. نصوصي في سوريا لأنها منّي ولأنها حبيبتي ولأنها سوريا، وفي المغرب وتونس والجزائر كانت مشاهدات عينية لبعض عالمنا الجميل ولأبهة العيش وللناس القريبة قرب الحب. لم أزر اليمن ، كيف أسبغ عليها نصوصاً ليست لها ولم أكن في قلبها . الصواريخ ما دلنّي عليها، الصورة على الشاشة ما يجمعني بها الآن، وهي صورة سوداء جداً ، صورة لئيمة لاتسمح لي بالتلصص على اليمن قبل أكبر مجزرة في تاريخ البشرية. ماذا تقول في اليمن بعيداً عن الجحيم ال" دانتي" الفظيع؟ كيف تُحيّد الأطفال عن النصوص، تُحيّدها عن الدم، كيف تزيح سطورك عن عيونهم المتحجرة الغائمة، والواسعة وسع الكتابة كلها؟ كيف نكتب في مدينة يمنية تحتضر؟ مشطور يمني لايحمل شارة التكتل والتراتب اللتين توسم بهما عادة الإيحاءات المدينية، فهي نحيلة ورقيقة ومُعتلّة وسوداء ايضاً اليمن كلها، بفضل سواعد الصواريخ الحاقدة، حائط مُتعبٌ مُتكىء على أرض مُتعبة. أطياف مدن ليس لها سوى واحهات حزينة لايسندها العالم . تتكرر المشاهد على التلفزة كل ليلة ، بدون نية التكرار، سوى أنها الحقيقة التي لا مناص من عرضها. ولا صورة يمنية ترسم إنزياحاً ولو بسيطاً عن الموت. كل مشهد رُسم وحدهُ وإن بفكرة الفناء نفسها. صنعاء، تعز، صعدة... الغيوم اللولبية، والدوامات الفضائية. أكثر من ألف يوم من القتل، وأكثر من ألف ليلة أمام الشاشة، أبكي من دون صوت، والعالم من دون صوت !!! ألف يوم من النظر الى الموت في وجهه، ثم نصوصي في فلتان الحروف، في الفضاء وفي السقوط الى الفضاء، وفي الأطفال في طريقهم الى الفضاء. المخيلة هي مخيلة الفضاء والسباحة في فضاء غير محدود. أشعر وأنا أرى الى اليمن كل ليلة أنها بلد لا تندمج مع باقي بلدان الأرض، بل تبقى وحدها على نحو الموت الكثير الذي يقطنها. إنها أشبه بالذكريات بالأسود والأبيض، لاتملك مقالة صحافية أن تتبّع مجرياتها، لكن الصلة بينك وبينها هي ميزانها الدامي الذي لايختّل أبداً. الموت يغدو مفردة، والدم يملك دلالة خاصة عن ما آل إليه العالم اليوم. واليمن بهذا المعنى ، اليمن كبلد، لايندرج في غائية الكتابة ، بل يصبح مصيراً شخصياً، وصلة بين أحوال الوحشية وبين المستضعفين. .
Comments