شارع الحمراء، مآل ودلالات ميلادية
- عناية جابر
- Dec 29, 2017
- 3 min read
يحدثُ أن أمشي الهوينا على غير عادتي، أقطع شارع الحمراء من محطة " أبو طالب" لغاية مصرف لبنان، أي أقطع الشارع الرئيسي من أولّه الى آخره. الهوينا هنا، ليست للغوى، بل لتمّلي ما أحدثتهُ زينة الميلاد ورأس السنة المقبلين في الشارع ، ومحلات الشارع، ومطاعمه ومقاهيه وناسه.
المصدر: الميادين نت
http://www.almayadeen.net/articles/opinion/847494/شارع-الحمراء--مآل-ودلالات-ميلادية

في الميلاد أكون ألطف، وأعيد بناء جسور مع من غبت عنه، مع من باعدت بيننا الهموم، ومع أرواح بعيدة ما برحت تُراود نومي في إشارة الى يأسي من مآلنا العربي الذي يُقلق نومها.
حسناً تفعل وعول وغزلان سانتا كلوز بقرونها المتشابكة ، إذ تأتينا طائرة مرتفعة عن الأرض كما رأيناها في الصور الملوّنة وأفلام الكرتون ، إذ لا أدري ما كان يحّل بها لو أتتنا تتقافز على أقدامها هنا وهناك ، على أرضنا المفخخة بملايين الأفخاخ.
شارع الحمراء في هذه الأيام، مُظلل بشرائط فضيّة أنيقة ، ويحتشد في زواياه اللونين الأبيض والأحمر على أشكال ميلادية مصحوبة بموسيقى خفيّة، لكنها لا تغادر الإنشاد والتراتيل والصلوات الخيّرة الخاصة بالميلاد والتي تهزم الأشرار على ما نرى في الأفلام .الصلوات نفسها التي أوشكنا على نسيانها، ويُنعشها المطر الآن ، والفضاء الرمادي الذي يُضبب السماء.
شجرات ميلادية كبيرة وصغيرة على مدخل هذا المحل وذلك المقهى، خضراء قدر ما يحتملهُ اللون الأخضر، ومُثقلة بطاباتها البللورية المتوهجة، والمنفوخة كقلوبنا التي عمل القهر على نفخها. آلاف الطابات مدروزة على أمتار طويلة من زركشات الفضي والذهبي، وملفوفة على أجساد الشجر من قمتها حتى اخمص قاعدتها. أيضاًالمغارة، ودفء المهد بين خرفان الرعيان ، وهدأة سرير الطفل الذي لامثيل له، واشكال المجوس في إهتدائهم حين وسوس لهم النجم في السماء.
إنه شارع النبؤات ، لبنانيين وسوريين وعراقيين وأجانب، كما لو الشارع لم يعد شارعاً، بل بيتاً يستنسخ أسلوب الملائكة، ويُغذّي الخيال بأمور تتعلق بالسماء وحدها
شارع الحمراء كتاب بيروت، بيان بيروت، الأمر الذي يجعل أيّ من عابريه، كما لو في تضاعيف عذبة. لاتخلو مدينة من شارع يرمزالى وجودها، لكن لشارع الحمراء تحديداً، أكثر من شهادة وتجربة. صحيح أن الشارع لم يعد يؤكد على هوية سياسية كما عرف في السابق، ففيه اليوم على إختلاط ناسه وهوياتهم، ما يُشبه تجنّب السياسة المباشرة، الأمر الذي إختطه الشارع لنفسه، والمفارقة هنا هي في تأكيد " الاجتماعي " البريء، ضد التورط في " السياسي " المريب. عنوان الشارع عام، إلإ أننا نحسّ أن هذا العموم تمويه، فالشارع من أوله الى آخره يدّل الى خاص لم يتعيّن بعد. شارع متخلص من سجالات الماضي، من تعب النقاشات وجلد الذات، الى روح إنشقاقية لا علاقة لها في الظاهر على الأقل بما يجري خارجه.
شارعٌ طويلٌ ضخم كنفق مفتوح، عاشر المدينة في عزّها وعقمها وسطحيتها، يتزّين في الأعياد فيصبح أكثر ضبطاً وكثافة وإيحاء. إنه يملكُ فيها ، رغم شكله الطفولي في العيد، رؤية بؤرية وحساً هائلاً بالمفارقة، وقدرة كبيرة على الموازنة بين الصورة والفكرة. الشارع الذي عُرف بإكتنازه الفكري ومفارقاته الذكية وشبابه المُلهم ، وقدرته الإشارية والإيحائية العالية على أحوال البلد كلهُ.
شارعٌ يدل الى مفارقة بين الظاهر والباطن . شارعٌ لا يبالي بالهويات، بل يستقبل الجميع، الأبيض والأسمر، ابن البلد وابن المنافي، ويُفسحُ لهم على جانبيه وأحياناً في قلبه، لعرض ابداعاتهم ومنتوجاتهم وتدارك أحوال هجراتهم.
شارعٌ مُتعدّد متناقض، ليس شارعاً بالمعنى الهندسي المتعارف عليه، وبالتالي ليس نظاماً واحداً، فالسائر فيه يسير بين التناقضات كما ويلعب بها. تلك عناصر ، احسبها أساساً في كونه الأشهر بين شوارع المدينة ، والأكثر عراقة . شارع الحمراء ليس تاريخاً فحسب ، إنه مباشر وراهن ومحسوس ويتكيّف مع الأحداث التي تجري خارجه ويستوعبها بكل رأفة وبقلب مفتوح.
الميلاد يغزو شارع الحمراء، وأنا أقطعهُ يومياً رواحاً ومجيئاً، فألحظ انه مغناج يصنع أيامه وتجارته وقوت يومه وعابريه على هواه. إنه يريد لصيته الشائع والواسع أن يكون قوة تحميه من حاضر فارغ، وان يكون أبداً، سلطاناً على شوارع المدينة والعالم كافة. هو الشارع الفولاذي والشاعري في آن، وهو الجنرال السرّي على كل الشوارع على الرغم من الأحداث التي نالت من هيبته ، وتآمرت عليه وعلى فتنته ولعبه وجدّه، نالت من سلطانه ، لكنه بقي رحماً كبيراً ممتداً على طول تاريخه، بقي شارع الأصدقاء والغرباء وشارع الأرقام وراصد الغيب والمستقبل والمؤشر عليهما .
قد يبدو من الغريب ، الكلام عن شارع الحمراء وهو من مبان وحجارة فحسب ، كما لو نؤنسنهُ ونُحيلهُ كائناً حيّاّ، لكنه إحساسنا وخيالنا وحتى شعورنا الأكيد. في الحمراء روحٌ تجول عالياً، تحاول الى حماية المّارة من صراعات الداخل وصراعات الخارج ، وهي وتائر نفسية وفكرية يشعر بها الناس هنا ، إلحاحات وهواجس، ونسيج إنساني تفصيلي وإيقاعات أقدام خفيفة تخشى أن تؤلم الرصفة . إن فيه عالماً ورؤيوياً خاصان، فهو بهذا أجدر بأن يتحوّل بكله الى مسرح مفتوح لأنه يملك في داخله أكثر من صوت : صوت الأنا وصوت العالم، فرفقاً به ورفقاً بهذه المدينة الشجاعة التي أرضعت الجياع حين كانوا جياعاً، وآوت من تهدّم سقفه ومن إحتاج الى فسحة حرية للتعبير عمّا به .
Comments