بين دونالد ترامب وراشيل كوري
- عناية جابر
- Dec 15, 2017
- 3 min read
لحظة أعلن دونالد ترامب القدس عاصمة لإسرائيل، حضرت في راسي وبقوّة، راشيل كوري. كوري التي قضت سنة 2003 تحت أنياب جرّافة إسرائيلية، لم تكن في ذلك الوقت تُجابه الجرّافة الإسرائيلية من أجل مجرد تسمية ترامب لمدينة فلسطينية ما، عاصمة لإسرائيل .
المصدر: الميادين نت
http://www.almayadeen.net/articles/opinion/845859/بين-دونالد-ترامب-وراشيل-كوري

راشيل حينها، كانت واعية أشّد الوعي ، بفلسطين ذاتها، بحدودها كافّة ، بحقها في الوجود . كوري حين كانت تقضي الساعات الطوال أمام خارطة فلسطين، وهي تتفنن في التأكيد لنفسها وللعالم الحّر ، أنها لا تُمعن في التحديق في خارطة فلسطين وفق المصادفة، بل وفق الحق الذي يجب أن يكون عليه. عبر التلفزة، ترامب الأصهب يُعلن القدس عاصمة لإسرائيل، بمعنى آخر يُعلن إسرائيل دولة لا سواها على العالم أجمع، وعلى أصحاب الحقوق كافّة. التلفزة هذه نفسها كانت نقلت بالصورة الواضحة ، إنقصاف وردة " أميركية" ذهبت في رحلة فواح أزكم أنوف الكثير من الحّكام العرب الذين اعتادوا النتن رائحة . ثمة فلسطين في ماوراء الحقول المفلوحة بالأجساد السمراء والبيضاء، وثمة فلسطين للسطوع البطيء لجمال وحقّ لا بدّ منهما. تقدّم ترامب الى الشاشة وأعلن نهاية حقيقية لفكرة فلسطين، فيما تقدّمت يوماً جرّافة منتشية بحصد ضحيتها ، قصمت الوردة الأميركية الى نصفين ، مُهدية الكاميرا جمالاً أبيض غير مسبوق. لم تعلم الوردة حينها ، التي وقفت بوجه الجرّافة الإسرائيلية ، أنها إنما ستنقصف بأمر من ترامب نفسهُ الذي لم تكن قد سمعت به ، وبأن أنياب الجرافة على نحو قريب منها ، إنما هي أنياب الرجل الأبيض الذي مزّق بياضها . بعد قرار ترامب، داهمتني حشرية مراقبة الوجوه في الشارع دون تمييز في إكتشافاتي التّامة وإكتشافاتي الناقصة، سوى ان الثابت من دون شك، ذلك الأسى الجامع، الضارب في الوجوه كلها. لحظة تخرج من بيتك الى رحاب المدينة ، تنهار دعتك كلها، تنهار طمأنينتك التي تكون ربيتها برموش العين ، من هذه الإهانة الطويلة. أجساد تتحرّك بصمت، والمّارة الدينيين والدنيويين في مقارباتهم لقداسات خطرة، زادها قرار ترامب خطورة. لا أريد أن أكتب في السياسة. لأن الكتابة في فلسطين لا تُوزن بالسياسة . الفكرة الآن في وجود فلسطين أو في عدم وجودها وليس في نقل سفارة من بلدة الى أخرى ، والأمر أن ترامب قال كلمته، يبقى على الشعوب وحكّامها قول كلمتها بعيداً عن التأتأة ودوار الفراغ والنسيان والعزلة. تنافست صورة راشيل كوري مع ترامب، ومع حقيقة أن الشابة الأميركية قضت وفاءاً لفكرتها عن الحق، ليأتي الرجل الأصهب الأميركي أيضاً، هادماً تلك الفكرة، ناعفاً الحق من أساسه، على نحو وحشي، لا إنساني وبموافقة عربية على مستوى " الكبار" ليحّل الفقدان دفعة واحدة. الفجوة الهائلة الآن ، هي بيننا وبين جسد راشيل كوري المُدّمى ، بين روحها التي ما عرفت غير الحق، بين مفهومها للعدل ونكرانها للظلم ن بين البنت المُداسة بإحتقار،مُزالة،مُلغاة، وبين الرجل الأصهب الذي داس بأقدامه كل فكرة عن الحق، وأضاف على موت راشيل وما يُمثّل، موتاً خصباً لا رجعة عنه. أعود وأقول أنني لا أريد أن أكتب في السياسة ، ذلك أن فلسطين لاتوزن بالسياسة .لن أتكلم سياسة فالرئيس الأميركي الذي أصدر قراره، يعلم أن أمراً كهذا لا يوزن بالسياسة ويُستحسن أن لا يكون له ميزان سوى صورة ترامب نفسه وصورة العالم على ما هو عليه. الأمر أبعد من السياسة وأخطر ، ويُشبهُ محاولة خنق فلسطين بيدين باردتين، خنق البلد الذي قاوم طويلاً وقد استحال نبؤة وهتافاً .أفكرّ أن الأمر يتعدى السياسة وان فيه تلك الفلسطين التي تخلى عنها أكثر العرب والعالم . فلسطين تحتاج الآن الى أكثر من الإرادة والمقاومة ، وإن حسابات العواقب لم تعد واجبة ، إذ ثمة ما نخسرهُ فعلاً ، مع ذلك علينا الدفاع عنه . ما بدا أن صبر الفلسطينيين قد حصلوّه بيد ، ليس جديراً أن يخسروه بيد أخرى، وسخة وغير ذات كفّ نظيف. فلسطين التي بقيت بفضل تضحيات أبنائها ، وبضمانة عالمية، جاء ترامب أخيراً رافعاً الغطاء عنها ، غير عابىء بأيّ صوت مُعارض، جاهداً الى ذريعة تُمكنهُ من إلغائها وفي الأقل تحجيمها والحجر عليها . لعلنا نقول هنا أن ترامب أحسن قراءة الظرف العالمي، ومدى ما وصلهُ التهالك العربي ، فبدا غير محترز في إعلانه الخطير بالقدس عاصمة لإسرائيل ، فما من أحد سوف يقطع عليه الفرصة لإستغلال هذا الظرف. لا نضع أوزار القرار على ترامب وحده بالطبع، فالتهاوي العربي ، وفقدان الحساسية العالمية، والظرف والوقت بالطبع ، يسمح للرجل الأصهب بأخذ قرارات على مثل هذه الخطورة، دون تقدير أو إلتفات لأيّ " توّسل " عربي أو اجنبي ، بل أن الناطقة بإسمه رفضت بعجرفة لامثيل لها أي " نصائح " من أحد بهذا الخصوص. كان همّ ترامب منذ لحظة توليه السلطة ، رفع الغطاء العالمي عن الكيان الفلسطيني، ولا نشّك أن بعض القيادات العربية ساعدت على قرار كهذا، ساعدت على القل في كمّ أفواه وإحداث بلبلة عالمية مهدّت لقراره الفظيع فسحة في الزمن والتصرّف إستغلهما أحسن إستغلال ، ووصل معهما الى ابشع ما يستطيع. لا نضع أوزار ترامب بالطبع على عاتق تخاذل العالم العربي ، لكن هذا الأخير لم يزعج الرئيس الأميركي أو يتجرأ على إيقافه. لقد وقعت الكارثة التي لا ندري الان تشابكاتها ومآلاتها . كارثة لن تعود بعدها الأمور أفضل ، وسيجد المنددين ومجالس الأمن ومنظمات حقوق الإنسان وسوى ذلك أنفسهم أمام تحديات إنسانية وأخلاقية مُهلكة .
Comments