top of page

الأشياء على حالها في مطار شارل ديغول

  • عناية جابر
  • Nov 6, 2017
  • 4 min read

قد يحدث أنك كنت مستمتعاً جداً في إقامتك الأميركية، لكنك لم تكن تكّف عن السؤال الذي لم يُبارح رأسك "ماذا لو حدث طارىء أمني ما، جعل من عودتك إلى لبنان أمراً مستحيلاً؟ "يخفق قلبي بشكل موجع من وطأة السؤال والاحتمال".

المصدر: الميادين نت

http://www.almayadeen.net/articles/opinion/835665/الأشياء-على-حالها-في-مطار-شارل-ديغول

حسناً، حلّ يوم عودتي، وما من حدث أمنيّ فادح في بيروت، وما من إعصار أو عاصفة في سماء واشنطن تُنذر بتأخّر سفري أو تأجيله. أجرّ حقيبتي الحمراء وقد ألصقتُ عليها صورة لميكي ماوس تُيسِّر لي الاهتداء إليها من دون كثير حيرة أو "بحلقة" في الحقائب التي تدور من دون هوادة، ويبحث عنها أصحابها لاستلامها.غادرت واشنطن في الرحلة التي استغرقت ثماني ساعات متواصلة إلى مطار شارل ديغول. نزلنا – نحن الركّاب – كلٌ إلى وجهته، وكان عليّ بعد كافة الإجراءات التفتيشية المُهينة إلى حد، من خلع ولبس ودغدغات إلى ما هنالك، الانتظار في قاعة الركّاب ، أمام الباب 29 ريثما تُقلع طائرة الميدل إيست التي ستتوجّه بنا إلى بيروت.لم يطرأ ، على ما عاينت، أيّ تحديث على مطار شارل ديغول منذ عرفتهُ من سنين طويلة خلت. الأشياء على حالها، الأشياء والزوايا على حالها، محلات العطور والألبسة والأكسسوارات والمشروبات الروحية وسوى ذلك، غير أن أمرين ثانويين إثنين استرعيا انتباهي، أحدهما غياب " الكشك" أو الغرفة الزجاجية المغلقة الخاصّة بالمدخّنين، واستبدالها بحيّز مكانيّ آخر، جُعل في أقصى المكان، بمحازاة الحمّامات تماماً، تحت سماء رصاصية مكشوفة، وتلعبُ في جنباته الريح الصباحية التي لا ترحم. مع ذلك قصدتُهُ ودخّنت كما يجدر بالمدخّنين والمدخّنات. الأمر الثاني المُستجّد في هذا المطار الطاعن في السّن والقِدَم، استحداث فسحة ناعِسة الضؤ تحت مُسمّى " ريلاكس" جُعل لتدليك الرجل المُتعبة تقوم على خدمته صبيّتين آسيويتين. مكان مُغر، دافىء ومؤثر ويناسب المُبتلي بالانتظار لساعتين إضافيتين قبل إقلاع الطائرة إلى بيروت. دخلت – برعونتي المعهودة – وسلّمتهما أطرافي المُتيبّسة فعملتا بحنان على تليين جمودها وتخفيف التعب.أقلعت بنا الطائرة أخيراً من شارل ديغول وتغزل في جنباتها الأحاديث اللبنانية الصرفة، بالعربية نادراً وبالفرنسية على الشكل الممتاز. بعض المتموّلين ورجال الأعمال السوريين كانوا على متن الطائرة ووجهتم سوريا للاستثمار على ما فهمت. نظراً لعلو " الدردشات" تسنّى لي سماع جلّ ما يتحدّثون، وتأتي أحاديث عن شُبهة الانتخابات اللبنانية القادمة وعلى عزمهم على المشاركة بها، كما أتت بشكل متوتّر عن الوجود السوري المتعاظم في لبنان ، إلى أحاديث خدماتية قارنت ما بينها في لبنان وفي فرنسا : مياه ، كهرباء، أنترنت، الجريمة اليومية المستحدثة في لبنان، ندرة فُرَص العمل، المحسوبيات، سوء الإدارة ، والفساد المستشري" يا خيّي شو بدّي أرجع ساوي بلبنان؟ نازل شوف الأهل وساوي سناني هون الحكمة غالية !! الطبيب الشاب الذي رافقني في رحلتي من واشنطن، نال نصيبهُ من الاستشارات الطبيّة والشكاوى من عِلل وأوجاع قصّها عليه جليسه على المقعد المجاور، ما إن عرف هذا الأخير بتخصّصه في الطب. ابتسمتُ للطبيب ابتسامة شامتة ، فقابلني بتكشيرة مُتأفّفة فانصرفت عنه لمصيره.حسناً ، الأكل اللبناني أخيراً والاختيارات ما بين " الأومليت" و " الكنافة " في الفطور المُبكر، ثم الدجاج و " الباستا" كتنويعات على الغذاء.ألصقت رأسي بزجاج النافذة أستعجل رؤية بحري الأبيض المتوسّط الذي هجرتهُ وأنهكني الشوق إليه.بدأت جبالنا والبيوت تطّل برأسها، وبدا بعد الظهر اللبناني مُضبباً وماطراً فقلت إنها بيروتتي وهذا شتائي.سحبتُ حقيبتي ال ميكي ماوسية وقد أطلّت تتهادى مُتثاقلة بين الحقائب، وخرجت إلى الفضاء اللبناني عازمة على تفويض أمري لشؤوننا المُضحكة/ المبكية مهما بلغ شأن مهازلها. " لوين واصلة يا مدام " عاجلني أول شوفير تاكسي التقيتهُ :" عالحمرا- قلت له ، " اتفضلي طلعي واتركيلي الشنطة". راقني هذا الاهتمام وإن مُصطنعاً، وبلعت " التسعيرة" التي فاقت ال" 40 دولاراً" ، وقلت في سريّ إنني أستأهل أن أبلغ بيتي بأسرع وقت ممكن ومهما كانت المنغّصات. قال السائق لقد أخرّوا الساعة كما أنها تُعتّمُ باكراً وتُمطرُ الليلة كما أمطرت بالأمس.. كما يمكن لم تسمعي ما حلّ بحيّ السلّم قلت إنني لم أسمع شيئاً ولم أعرف ما إذا كان يُحدّثني أم يُحدّث نفسهُ. انسابت موسيقى فجأة ، من مذياع السيارة عكرّت صفوي فلا أحبّ ما يحول بيني وبين هذه القطرات القليلة من المطر وتأتي من الهواء كعطر أكيد.راحت المدينة تتثاءب وتغرق في ظلمة رقيقة هابطة. زحمة السير زادت من تعبي وشعرتُ في رأسي وفي كل عضلة في جسمي كم كنتُ تالفة وكم أن ما يُبعدني عن بيتي في هذا التطواف الليلي المرهق كان مُضنياً. أنزل السائق حقيبتي وجرّها حتى باب المصعد، واختفى كما يختفي الغرباء وكما تختفي الأشياء الغريبة . فتحت الباب ودخلت كمن يصل إلى الطرف الأقصى من العالم وقلت هذا بيتي!! قلت هذا بيتي وأحدنا بحاجة إلى أن يكون له بيته الخاص ، ومكانهُ الذي يرجع إليه. بيته الخاص – كرّرت – وفكرتُ بالفلسطينيين. فكرتُ بهذه الأمّة السخيفة المُتلهية بيأسها وجهلها وبؤسها وفسادها وقلّة عزيمتها ، عن مصائر شعوبها. إنه بيتي، وإنني الآن في بيتي ولن أسمح لأمور هذه الأمّة المُذلّة وأمورها المأساوية التي لا شفاء منها بتعكير عودتي وغبطتي بهذه العودة.كنتُ أحسب بسبب من تعبي أنني أرتمي

في سريري وأروح في نوم عميق، سوى أنني وجدتني وقد صنعتُ قهوتي وجلستُ أكتب . كتبتُ كثيراً جداً، وكان في نيّتي الكتابة بعد، غير أن التعب داهمني مجدّداً فجأة وكانت بيروت على وشك الإستيقاظ. نمتُ لساعتين كاملتين وقمتُ أسابق الخطى إلى كورنيش المنارة لكي أكون الأولى التي تصل، ولكي لا أبدو متطفّلة على المهرولين والمشّائين.إن أفضل أوقاتي التي تستحق فعلاً أن تُحكى هي تلك التي تعكس روحي. ويبدو وصفي لها يائساً وربما أحمق، لكن كل من كان على علاقة بمكان ما ، وطن ، بحر ، جبل ، أو حتى شجرة ، سيؤكّد هذه التفاصيل ، وسيكملها بمئات أخرى أكثر جمالاً. أثنيت بشدّة على تلامع الموجات التي هرعت نحوي، طريّة وفضية، ثم أنني وقفتُ وحيدة طالبة الصفح بنوبة بكاء صامت.

Comments


Recent Posts
  • White Facebook Icon

Follow me on

جميع الحقوق محفوظة © 2016 لعناية جابر والكتاب المشاركين ، وفي حال الاقتباس نرجو الإشارة إلى الموقع كمصدر

© 2016 by Samer Y. Saab. Proudly created with Wix.com

bottom of page