top of page

في رحم الطائرة وقلب الغيم

  • عناية جابر
  • Oct 23, 2017
  • 4 min read

اللبنانيون، أستطيع تمييزهم في الطائرة والدلالة عليهم واحداً واحداً. أستطيع تبيّن لبنانيّتهم من الجَلَبَة التي تتصاعد من مقاعدهم. أستطيع تمييزهم من سخْطهم البادي على شيء غير مفهوم، من اليأس الساكِن في أحداقهم، من أحاديثهم عالية النبرة، من علاقتهم بالطائرة هذا الجسم المعدني البلا عاطفة، وهم يحتاجون إلى الكثير من العاطفة، أميّزهم من علاقتهم بالمضيفة كما لو هي ابنة خالة كلّ منهم، من نوعيّة الطلبات التي يطلبونها، من تعاملهم غير السويّ مع أطفالهم المُنهَكين، وأميّزهم من المجهول الذي يرتمون فيه كما لو قوة قاهِرة كنستهم من لبنانهم الأخضر.

المصدر: الميادين نت

http://www.almayadeen.net/articles/opinion/832121/في-رحم-الطائرة-وقلب-الغيم

أختار مقعدي بجوار النافذة، مع إن اختياري يُحرجني، ويُزعج الجالس بجانبي، كلما قصدتُ حمّام الطائرة لغسل يدّي وأسناني والترّيض في أروقتها درءاً لمصاعب رقادي الطويل من دون حراك ولا مَن يحزنون. أختار مقعدي بجوار نافذة الطائرة، في حاجتي إلى الانفصال عن باقي الركاب، والهرب إلى سماوات كثيرة وغرائب تصنعها الغيوم، وأشكال "ربانيّة" صرفة، ليست بمُستطاع عيوننا على الأرض، كما أجلس بجوار النافذة في حاجتي المُرعبة إلى التفكير في أشياء وفي عدم التفكير بتاتاً. فقط تلك الهيئة الحالِمة ... والصمت.- هل تريدين بعض القهوة؟ سألني الرجل الجالس إلى جانبي. قوّيُ البنية وفي منتصف الخمسينات على ما حسبت. يرتدي رفيقي في السفر، قميصاً أزرق اللون، وبشرته التي لوّحتها الشمس توحي بأنه رياضي من الطراز الجيّد. بدا الرجل مثل مدير مؤسّسة أو لعلّهُ موّظف مُهّم. كانت عيناه تنمّان عن رجل اعتاد على إعطاء الأوامر.- لنشرب بعض القهوة ونتحدّث (سألني). كان يمكنني مقابلة طلبه بالرّفض أو الصمت، أو القول إنني لا أريد أيّ قهوة لعينة وليس هناك ما أتحدّث عنه معك، أو عذراً سيّدي أنا لا أعرف حتى إسمك ولا مَن تكون ثم أنني لا أحادث الغُرباء.في عينيه قوّة غريبة، أومأت برأسي علامة القبول فسارع إلى طلب القهوة من المضيفة. تجاذب الحديث مع مطلق آخر، على علوّ يقرب السماء، غير تجاذبه على الأرض. تتكوّر الكلمات وتتشابك وتروح لا تُشبه الأحاديث الأرضية، العادية في شيء.حكينا أشياء كثيرة، وكنت مهمومة في أن يتركني وشأني أخيراً، سوى أنني لم أقاطعهُ ولم أتذمّر. كان رجلاً لطيفاً ووحيداً وأخبرني – أنا الغريبة – أسراراً في حياته و"خبريات" أحسب أنها أكثر مما يجب أن يُخبره.لا أدري لماذا يُفشي المسافر في الطائرة، خصوصاً، إلى جليسه على المقعد المجاور، أسراراً ليست للتداول ولا يقولها الغرباء لأعزّ أصحابهم، ولعلّ المراهنة على عدم رؤية جليس الطائرة هذا لمرّة ثانية، هي أحد أسباب البوح التي تُشعرك أن أسرارك التي تُثقل كاهلك سوف تُذريها الريح بين الأرض والسماء.نحتاج في الطائرة إلى الكتب، ليس إلى الناس. نحتاج الكتب التي تمحي أكثر كوارثنا الأرضية إيلاماً، مثل موت شخص نحبّهُ أكثر مما نحب أنفسنا، مثل وطن يذوي أمام أعيننا. نحتاج الكتب، تجعلنا نشعر أن حدثاً ساقنا إلى أعماق غابة بعيداً عن بقية البشر، تجعلنا نختار خلاصنا الخاص وانتحارنا الخاص ومصيرنا الخاص، يجدر بالكتاب أن يكون مثل فأس تضرب في المحيط المُتجمّد بداخلنا.المضيفة التي لم يعجبها إنني الوحيدة التي جافاها النوم، وأن النور المنبعث من أعلى مقعدي ليُنير قراءاتي، يُشعرها أن شيئاً ما ليس على ما يُرام. سألتني أن :هل أحضر لك شيئاً ساخناً؟ فشكرتها. كان وجهها النضر قد ذبُل بفعل الارتفاع والمسافة والسفر الطويل، كما أن مكياجها الذي بدا جذّاباً لحظة صعودنا إلى الطائرة، أخذ يتفسّخ فوق المحيط، ويُفسح لبعض التجاعيد لتأخذ مكانها على البشرة البيضاء المُنهكة.أميركا تحتنا. أميركا تحتنا في الظلام. ولكن حتى في النظر إلى الظلام كنتُ خبيرة، واستطعت أن أتبيّن الوِهاد والجبال والبيوت النائمة والأشجار، وتقريباً كل شيء حتى أن رائحة الأرض دخلت صدري.في الرواق، كانت فتاة تتمشّى حاملة تلفونها الذكّي، وقلت إن النوم جافاها هي الأخرى، وقلت إنها أرقة مثلي. ثم ها هو رجل بدين يحاول تليين عضلاته ويسير مستنداً إلى الكراسي بصعوبة. حسناً لست وحدي إذن من يجافيها النوم، وتطّل الآن جوقة المسافرين، كما لو يتدرّبون على المشي ثانية.هيكل الطائرة يتمايل، والمضيفة تهرع منادية على المُتريّضين العودة إلى أماكنهم وربط أحزمة الأمان.هيكل الطائرة يتمايل ويرتّج ويقوّض كل ما حسبت أنني أعرفه، كل ما آمنتُ به ووثقتُ فيه. يتمايل هيكل الطائرة ويرّتج ويقوّض كل ما حسبته من المسلّمات والبديهيات، شأن الأشياء التي في البشر.. وتخذلني. شأن الأشياء التي نحسبها يقينية راسخة.اللبنانيون، أستطيع تمييزهم في الطائرة والدلالة عليهم واحداً واحداً. أستطيع تبيّن لبنانيّتهم من الجَلَبَة التي تتصاعد من مقاعدهم. أستطيع تمييزهم من سخْطهم البادي على شيء غير مفهوم، من اليأس الساكِن في أحداقهم، من أحاديثهم عالية النبرة، من علاقتهم بالطائرة هذا الجسم المعدني البلا عاطفة، وهم يحتاجون إلى الكثير من العاطفة، أميّزهم من علاقتهم بالمضيفة كما لو هي ابنة خالة كلّ منهم، من نوعيّة الطلبات التي يطلبونها، من تعاملهم غير السويّ مع أطفالهم المُنهَكين، وأميّزهم من المجهول الذي يرتمون فيه كما لو قوة قاهِرة كنستهم من لبنانهم الأخضر.المضيف الذي دفع بعربة مشتريات العطور والدخان والكحول وأدوات التجميل وسوى ذلك، كان أكثر جاذبية وسحراً من المضيفات مجتمعات.تمهّل أمامي غير أنني انصرفت عنه إلى التأكّد من مصدر صوت عذب. كنت بدأت أسمع صوتاً يُشبه صوت ضحك مكتوم، لكنه كان صوت المطر في الخارج... كان صوت الماء فحسب، ماء ينزلق فوق زجاج نافذتي فانكفأت إليه بكل جوارحي.أميركا تحتنا الآن ولا بد أنها استيقظت وتحتفل بذكرى كريستوف كولومبس مُكتشفها. حين نزلنا إلى الأرض اكتشفت أن أميركا منقسمة على نوع الاحتفال هذا. مدارس احتفلت وأغلقت أبوابها، ومدارس لم تحتفل وبقي يومها عادياً مفتوحاً على الدراسة. كذلك فعل الانقسام بشركات العمل وسواها من المنشآت الرسمية وغير الرسمية ، منهم مَن يحبّونه ويعتبرونه أصل ميلاد الدولة العظمى، ومنهم مَن يعتبرونه أصل " السلبطة " على الشعوب وأصل البلاء . هذا شأنهم أيضاً مع "ترامبهم" الهائِج ، وهي على كل حال أميركا بكل تناقضاتها ، ولكن من المهم التأكيد على أن وداعاً كينيدي .. أجل وداعاً.

Comentarios


Recent Posts
  • White Facebook Icon

Follow me on

جميع الحقوق محفوظة © 2016 لعناية جابر والكتاب المشاركين ، وفي حال الاقتباس نرجو الإشارة إلى الموقع كمصدر

© 2016 by Samer Y. Saab. Proudly created with Wix.com

bottom of page