يوميات لبنانية ليست ذات شأن
- عناية جابر
- Sep 8, 2017
- 4 min read
كثيرون يحسبون أن احتساء فنجان من القهوة معك في أيّ وقت، حقّهم الطبيعي والضروري، كما لو كانوا أنجزوا باكراً مشاغل العالم كله وآن أوان قهوتهم اللعينة. ما يحدث في الشارع لا يمكن التعبير عنه بكلمات..
المصدر: الميادين نت
http://www.almayadeen.net/articles/opinion/785244/يوميات-لبنانية-ليست-ذات-شأن

شرح لي بائع الخضار كل شيء. يُمكن لشاريات الخس – قال – أن يتجاهلن الأوراق الخارجية الصدئة والمُجعلكة التي تُغلفّها. "العبرة"، استعمل كلمة العبرة حرفياً، هي في التفاف أوراقها الداخلية جهة القلب تماماً. كان البائع يُطلق على شاريات الخضار إسم "الملعونات". يُفترض باللوبيا المقطوفة حديثاً – أضاف – أن تُحدث صوت تكتكة ندية، لكن الأمر لن ينجح مع الشاريات المُبتدئات، وسترينهن يُركزّن على كثافة اللون الأخضر، كما لو ينظرن إلى لوحة مرسومة بإتقان. كما أن الحُمرة الفاقعة – أضاف البائع – لحبّات البندورة ليست شرطاً لجودتها، السّر في النسغ وفي الأحشاء الصمغية. قشّر البائع ضحكة ساخرة ورماها في وجهي. لم أبادلهُ الضحك وتركتهُ ومشيت.لدى عودتي من " السوبر ماركت "، كان كل ما أحتاجه من أغراض يرقد في كيس بلاستيكي واحد. حين تكون مشّاء مثلي، تتعلّم أن كتفك تكون محجوزة فحسب لمحفظتك الضخمة، فيما تتدّبر يدك اليسرى أمر مشترياتك مجتمعة: كرتونة صغيرة من البيض الأسمر البلدي، معجون أسنان، ربطة خبز أسمر، علبة معكرونة بالحبق، جوز نيء ولوز مقشور.. باختصار القائمة التي علقتّها صباحاً على باب البرّاد.يمّر صديق وتراه مقبلاً فتحار. هل تضع أشياءك أرضاً وتتمّهل في تحيّته؟ أم تكتفي بإيماءة تشي باستعجالك!! مثل هذه الأشياء تحدث.
من أجل العِناق الذي باشر فيه الصديق، وضعت كيس مشترياتي على الأرض وأشرعتُ ذراعاً واحدة كي أنتهي من الأمر سريعاً. لا بدّ من وقفة تلامس، يقول الصديق شامتاً من ارتباكي. بالنسبة لهذه الفذلكة، أو الفلسفة المُتحذلِقة عن اللمس كشرط أساسي لإشهار الحب، يراودني الشعور بالأحتضار. لن يُمكننّي وقتي – أجيبُهُ – من احتساء فنجان من القهوة معك: "مشغولة كتير وحياتك". كثيرون يحسبون أن احتساء فنجان من القهوة معك في أيّ وقت، حقّهم الطبيعي والضروري!! كما لو كانوا أنجزوا باكراً مشاغل العالم كله وآن أوان قهوتهم اللعينة. الأسوأ، أن يطلبوا منيّ أنا مشاركتهم قهوتهم تلك. رفع كيس مشترياتي عن الأرض وهو يجتهد إلى سحبي من يدي في ما أردّد باستعطاف: "ليك بعدين، هاليومين، إن شالله بأقرب وقت، هلّق كتير مشغولة"، بينما رأسي يلتمع من الغضب.
بأيّ أمر أتورّط في بداية هذا النهار؟ يوماً ما سأموت من غير ندوب، لكن سأترك خلفي ذكرى إمرأة نحيلة ذات مزاج خاسِر. ما يحدث في الشارع لا يمكن التعبير عنه بكلمات، لكن بهَمْهَمة غاضبة. أصافح الصديق بعد صدّه بحزم وأحملُ كيسي مُبتعدة فيما صوته يتردّد في الشارع: ولكن ماذا عن القهوة؟ متى؟.
أنت لا تشعر بسوء الفهم أبداً كما تشعر به في الشارع حاملاً كيساً بلاستيكياً ثقيلاً ومحفظة ضخمة، واقفين أنت والآخر تحت ضوء النهار وسط المّارة والعابرين. في التفاتة عجلى مني إلى الصديق، خُيّل إليّ أنه منحوت من الخشب. لهاث وصخب في الشارع كأنك في صالة تدريب رياضية.
عندما وصلت إلى البيت ( لا أقفل التلفزيون أثناء غيابي ) كانوا يعرضون على قناة الناشيونال جيوغرافيك فيلماً وثائقياً عن نَفَق، وضوء يقودك إلى نهاية النَفَق. بدت خبرة الموت على أحد المُتحدّثين العائدين من رحلة موتهم، عذبة جداً. أراد الناجي بشدّة أن يصف لنا كيف ارتفع جسدهُ طافياً في الهواء.
أجلس إلى الكومبيوتر مُتصفّحة بريدي وأكتب كيفما اتفق ثلاث قصائد من تلك الأشعار اليابانية المعروفة بـ " الهايكو " ثم أدخل إلى المطبخ لإنجاز المعكرونة بالحبق تلك. فقط حين تخسر كل شيء، تغدو حراً في عمل أيّ شيء. قرأت هذه الجملة في موضع ما وأعجبتني، ولا أظنّها هنا تعني المعكرونة بالحبق.
أغسل الكسرولة وأملأها بالماء النقيّ، أدعهُ يغلي على النار مع إضافة نقطة زيت ورشّة ملح على أعواد المعكرونة، وتغلي الآن، لئلا تتشابك وتصبح عجينة.
إن أكثر الناس وحدة هم الذين يطبخون لأنفسهم. بعد بضع طبخات يقّل إحساسك بالوحدة. لو ضحيّت بنصف ساعة وذهبت لآكل عند أمي لما انتابني تماماً مثل هذا الشعور الثقيل. الفجوة في روحي تتّسع، تأبى أن تبقى على حالها حتى. لكني مازلت أؤدّي عملي الصغير وأقول مرحباً لكل شخص في العمل. مرحباً! كيف الأحوال مرحباً إنني أتالّم. مرحباً، إنني قوية. مرحباً، كل يوم ألف مرحبا.
في غرفة نومي أتأمّل أسناني في المرآة وأفكّر أنني لطالما حلمتُ بوظيفة ممرضة بدوامٍ ليلي، كل ما تحتاجه هو ابتسامة مُشرقة، ثم أن مسألة الأرق التي أعانيها ستُحل تلقائياً ما دمت أعمل ليلاً ولا أجاهد إلى النوم.
حين تدخل قطّتي، أراها في المرآة خارجة.. كأنها حيلة سحرية.
من اختلاظ المعكرونة بالحبق وقد نضج الآن، لا أشمّ شيئاً. آكل مرغمة من دون نفس من الشيء الذي بلا رائحة. أضع الكسرولة في البرّاد ثم أغسل طبقي وأقول بصوتٍ عالٍ: " كل شيء على ما يُرام " يبدو صوتي مُضحِكاً كأنني مُتكلّمة من البطن.
في الليل – لا أغلق نافذتي لا في الصيف ولا في الشتاء -، الأضواء تلتمع أكثر على الإعلان عن شقة للإيجار ( شقّة للإيجار ). أشعر أن هذه الشقّة المُعلن عن تأجيرها هي مركز اهتمام العابرين، لكنها منفصلة تماماً الآن عن إيواء أيّ منهم. بلا أيّ سبب واضح.
الآن أمام الطاولة في المطبخ، جالسة على كرسيّ أقرأ: "أهالي دبلن " لجيمس جويس. أكثر شيء أريدهُ، الشعور الذي يُثيرهُ فيّ رؤية يدين معروقتين. أخبرني أحدهم يوماً أننا في البرّية لا نقع على حيوانات مُسّنة. لا نراها. لأنها بمجرّد أن تشيخ، تموت. لو مرضت أو أبطأت في موتها يقتلها شيء أقوى. الحيوانات – قال لي – لم تُخلق لتتقدّم في العمر.
يرّن التلفون وحالما أرفع السمّاعة يُبادرني: "أنت أردت ذلك. أنت فجرّت كل شيء!! أقول له: أجل معك حق، وأعرف أن هذا ما يريد أن يسمعهُ تحديداً.
.
Comments