الكذب الذي لوفرته لم يعد كذباً
- عناية جابر
- Jul 31, 2017
- 3 min read
كتبتُ له بأنه لم يُنجز حياته من خلال كتابته، لم يكتب ما يريدهُ فعلاً، لم يكن رحّالة سطوره، ولم يُذق الحروف حرية الوجود. كتبت لصديقي على الطريقة اللبنانية مُحدسة سلفاً بأنني أخسرهُ الآن، لِمَ لا، فالخسارات هي نوع الربح الذي أرتضيه، كتبت له :"كتابة غير مستوفية الشروط الإبداعية، ومخالفة للحرية التي نحلم بها، ولا تتمتّع بأهلية فنية .." وطبعاً لم يرّد حتى اللحظة.
المصدر: الميادين نت
http://www.almayadeen.net/articles/opinion/61452/الكذب-الذي-لوفرته-لم-يعد-كذبا

في نشوة الحياة الحديثة بالكذب، في لزومه لهذا النوع من الحيوات، لم يعد الناس يلتفتون إلى الكذب الذي يكذبونه. الكذب، أجل، سمة من سمات البني آدميين. وبسبب العثرات الكثيرة التي أصبحت تحدّد حياتنا العصرية، تحوّل العالم كله إلى كاذب في سلسلة أكاذيب متّصلة، كما تحقّق في هذا المجال تقدّم هائل في الاتفاق الضمني بين الناس، على اعتبار الكذب أمراً حياتياً عادياً، حتى أصبح آفة، وظاهرة عادية وعالمية وكليّة الوجود، وبالتالي لم نعد نلاحظ وجودها.من جهتي، وبسبب من عملي الإعلامي، وعلى وجه الخصوص في الكتابة والنقد، أقترب أحياناً من ربقة المجاملة المموّهة، لكنني لا أقترف الكذب. أقارب هذه الموضوعة من أمر حصل معي. ماذا لو أرسل لك صديق تُحبّهُ، باكورته الروائية مُذيّلة هذه بإهداء رقيق متمنّياً أن تُعجبك روايته. حسناً، لم تُعجبك الرواية على ما تمنّى صديقك الذي تكلّف إرسالها بالبريد المُستعجَل من "آخر ما عمّر الله"، من استراليا مثلاً، فماذا أنت بفاعلة ايتها العبقرية؟ مضت أعوام لم أكذب كذبات كبيرة. الكذب أمر صعب على خلاف ما يعتقد البعض، ولم تعد بي من طاقة على تحمّل الأمور الصعبة. ماذا أكتب أرّد على صديقي ينتظر رأيي بإصداره الأول مرسلاً من المقلب الآخر من الأرض؟ ما أدهشني أكثر أن الكتاب لا يشبهُ صديقي، معماره على حذلقة لغوية وأسلوبه على تباه وغرور. لا أعرف ما دهاه، وما الذي انعكس هكذا في كتابه وجعلهّ عاجزاً عن التميّز، متنافراً مُقنّعاً، وهو في تنافره وتباهيه يبدو غريباً عمّا أعهده عن صديقي إن لم أقل مُضحكاً! استغربتُ سرده في قراءتي المتأنيّة، فأنا أثق برّقة صديقي، بثقافته، وأعرف كيف يرى إلى الحياة (وقد جمعتنا قبل سفره سنوات عيش طويلة) وإلى الكتب والكتابة. استغربت سرده الذي ينقض فكرتي عنه، عن شخصه، لكنني رحتُ أبرّر له سقوطه ناسبة السقوط لي، والغرابة لي، والركاكة في كتابه إلى ركاكة في فهمي وفيّ شخصياً. قلت بيني وبين نفسي، لا بدّ من أن شيئاً فيّ ليس على ما يرام، شيئاً في ذائقتي وفي داخلي ولا علاقة لكتابة صديقي بهما، وأن ضيقي الشخصي ضاق بنوع سرده، وبزيف مخاتلته واستعراضه وبما انتهى إليه كتابه من فقر معنى وإدّعاء .لطالما صفحت في مجال عملي، عن هفوات في الصياغة واللغة، الخيال والحرفة في روايات وقصص وأعمال فنية ومجموعات شعرية تقع بين يديّ ، فكلنا هواة في النهاية، أما مع كتاب صديقي فيبدو الصفح نفسه غير كاف.الأرجح أن ما أخافني، احتمال أنني اسأت قراءة صديقي نفسه وليس كتابه. وها هو كتابه الآن يحكي عنه ويدّلني عليه.لطالما اعتقدت أن النصوص الإبداعية مرايا أصحابها، وهي مرآة صديقي في كتابه تعكس فصولاً لا تقول شيئاً، بل قسطاً من العدم يسكن الصفحات. كلمات مُنمّقة وقدر من الخواء السلبي هشّمت ألفتُهُ في خاطري، وهشّمت ذكاء رسائله لي، ونجوى ومعنى تلك الرسائل.حيرتي الآن أصعب من أي وقت. هي أشبه بحيرة المرء من نفسه التي يعرف، من بحره الذي يتقرّاه غيباً، من سمائه التي يحدسها نجماً نجماً. حيرة من ظنّ طويلاً بأنه عثر على توأم روحه، إلى أن كتب أحد التوأمين، ما قوّض اليقين وكذّبُهُ ونسفهُ نسفاً.ليست نادرة على كل حال، النصوص التي لاتُشبهُ أصحابها. بل من النادر بالأحرى، وعبر متابعات منتبهة، الوقوع على نصّ يقترب إلى حدّ من جوهر صاحبه.أتذّكر لقاءاتنا في بلدان شتّى، أحاديثنا معاً، أفكارنا، أكلنا، عاداتنا، وشعورنا بجمال رفقتنا وفضلها. ما كنتُ لأتوقّف لحظة أمام قراءة مثل كتاب صديقي لو لم يكن صديقي. قلبّتُ في الصفحات حتى آخرها، غارقة في ضآلتها الحقيقية، وغرقتُ معها في حيرتي. ماذا أكتب أرّد على سؤاله؟ كذبة إضافية في سجّلي ليست بالأمر الباهظ إلى الحدّ الذي يُربكني هكذا! بيد أنها الجرأة في غير أوانها، وأخسر لا شكّ صديقاً آخر، ويتناقص صديق إضافي من رصيدي من الأصدقاء الذي لا يني يفرغ بإضطراد!إنني أعي كم أنا مُتطلبّة، بسبب من اهتمامي بغياب الشكل التقليدي عن الرواية والشعر، لكن هذا لا يحرجني، بما أنني أشعر أن غياب الشكل على ما اتفق عليه كلاسيكياً، حاجة ملحّة للكتابة الجديدة، كما عدم الانقياد المنضبط للكاتب لوحدة الزمان والمكان. أحبّ الكتابة عن شخصيات وكائنات لا تتّصف بأبعاد ضخمة، على الأقل ليس ظاهرياً. كما وتستهويني الكتابة عن شخصيات هامشية، تلعبُ في الظل ( الناس - الطبيعة ) غير إنها تعيش وتشعر بكثافة العيش.هل أظلم هذا الكتاب بين يدي الآن، حين أريد له أن يكون على قياس أحلامي وتصوّراتي؟ كلا!، فثمة ما هو أخطر مما أطلبه منه، وهو أن يبدو حرّاً في كتابته، الحرية التي تحقّق كينونة كاتب حقيقي وتدّل عليه.كتبتُ له بأنه لم يُنجز حياته من خلال كتابته، لم يكتب ما يريدهُ فعلاً، لم يكن رحّالة سطوره، ولم يُذق الحروف حرية الوجود. كتبت لصديقي على الطريقة اللبنانية مُحدسة سلفاً بأنني أخسرهُ الآن، لِمَ لا، فالخسارات هي نوع الربح الذي أرتضيه، كتبت له :"كتابة غير مستوفية الشروط الإبداعية، ومخالفة للحرية التي نحلم بها، ولا تتمتّع بأهلية فنية .." وطبعاً لم يرّد حتى اللحظة، لكنني سوف أُتبع رسالتي هذه برسالة شوق له، بيد أنني لن أقول له أبداً أن الرواية أعجبتني .. يصطفل!.
.
Comments