أيّ الصوَر أكثر إيلاماً ؟
- عناية جابر
- Jul 2, 2017
- 4 min read
كابدنا كعرب، رؤية جميع أشكال موتنا في الواقع ، وفي الصوَر المفرودة على شاشاتنا. منّا من مات مغلولاً، ومات متشظّى، ومات محروقاً، ومات مقطوع الرأس، أو مُحدّق فينا بعد موته كما لو يُشهدنا على ذلك الموت، أو ذلك الذي رأينا إلى أطرافه، وجذعه، ورأسه، كلّ في صورة مفردة أمضينا الليل في جمعها حتى لطمنا الفجر بنوره.
المصدر: الميادين نت
http://www.almayadeen.net/articles/opinion/59904/أي-الصور-أكثر-إيلاما-

كابدنا كعرب إهانة الموت على غير أسرّتنا، وما بين غير أهلنا، وفي أوطاننا وبعيداً عنها.. ودائماً في التباس غير عادل، مع أن قضايانا في وجهها الحقيقي عادلة، وغير مسوّغة لعقاب الموت في أبشع صوَره. غالباً ما تتداخل في رأسي أفكار عدّة في نفس الوقت، وغالباً من دون فكرة رئيسية. أفكار تجوس كالعفاريت في هذا الرأس المُتعب من تداعيات "الصورة" التي هي مستقبل العالم الآن، لمّا أنها تقدّم لغير شعوبنا متكأ حقيقياً يُعتّد به، فيما نتلقاها نحن بوصفها أحجية متكوّمة فوق بعضها. أنظر إلى صوَر القتلى على الشاشة بطرف عين واحدة، وأتفاداها في اللحظة ذاتها. هل يتطلّب العيش البسيط كل هؤلاء القتلى؟ هل يحتاج السلام، مجرّد السلام وليس رغد الحياة إلى كل هذه القسوة؟ تستثيرني الأسئلة تحت رعد الموت الفلسطيني، والسحل العراقي، والهدم السوري، والكوليرا في حدقات الطفل اليمني، والاقتلاع الليبي، حيث هكذا مثلما في معادلة عدمية: جثث تغافلنا وتسكن الكاميرات، ودائماً في كادرات مختلفة وزوايا مختلفة ولكن في سويّة موت واحد، حيث يتصاعد من سويّته، عمود دخان أسود يحرق عينيّي، يُخلّف الشاشة ويطاردني. الصورة على الشاشة تنقل لنا مقتلة رهيبة جذرها حقيقي وهدفها وفعلها ونتيجتها، ويتداخل في طريقة تلقينا لها الإدراك بالعاطفة، بأكثر السُبل امتناعاً على التعيين، بينما يتشكّل المصير الفلسطيني كليّاً (داخل الصورة وخارجها) من الوجد، من الحرقة، من ضياع الأرض والحلم، بل وحتى من تدّرج بريق التفاصيل التي عادة تبقى ظلالاً.. وهذه مقتلة أخرى لو نعلم. صورة بشعة لا تنكر أفعالها . صوَر مُتخاتلة تريد أن تُفهم كعارض سوء حظ للشعب الفلسطيني، لدموية الأيام السورية، لفظاعة الهجر اليمني من العالم كله. صورة هي فلسفة حياتية بائسة، وصورة مخمورة بالدم، صورة بلا رتوش، بلا سلوى أو مُخدّر، تضّج بصخب القنابل لإخماد قلق العالم الداخلي حيال الإرهاب!!صورة تعلمنا عن قصف الأعمار، عن احتراق الأطفال وتحت قشرة جلودهم تتجمّد أرواحهم الحيّة. صورة لا تمّس العقل إلإ قليلاً، ويخبو هذا مثل ضوء صغير في مشهد هائل مُتنقّل، مليء بأجساد أرضية مُرّمدة. صورة لا تتركك إلإ وكل ما هو شخصي فيك قد هُصر. صورة عربية تتبجّح بمادتها العضوية المُتخّمرة، وصورة حين لا تكون فلسطينية تحديداً، لن نحتاج أن نكون دقيقين هكذا في تسميتها صورة: يكفي أن تنقل لنا كوفية مُنّقطة بالأبيض والأسود، وحروقاً بالغة، ودماء وأشلاء وحجارة، وخرائب إسمها غزّة أو سوى ذلك من المدن الفلسطينية، تتشكّل بطريقة ما من كل هذه الأشياء، فطبقاً لتجربتنا الطويلة في التنقّل بين الصوَر، يمكن اعتبار الصورة الفلسطينية بشكل عام، مفردة بحدّ ذاتها، لأن كل ما فيها يُعانق رغباتنا المريضة إلى ذرف الدموع. وقد حدث لنا طبعاً في وقوعنا على صوَر أشدّ إيلاماً تنقلها الشاشات عما يجري من المآسي هنا وهناك في العالم كله، إن قلنا عن إحداها: هذه أكثرها إيلاماً، ولكن سرعان ما ينحسر ألمها حيال جبروت القهر في الصورة الفلسطينية، أميرة الألم الذي لا يُضاهيه ألم. تصير الصورة الفلسطينية هي "الصورة "مجدّداً ، فخر الحقيقة وناقلتها، مُستخدمة كل طاقتها الهائلة لخلخلة تماسك العالم وضميره.كنت لفترة قريبة ماضية، أقدر على التحديق في وجه كائن يحتضر، الآن أرى فيه وجهي الخاص مهما أفرطت في تنكري. من يؤاخذني على البكاء؟ إننا جميعاً نملك عيوناً، ولكن ثمة من يظل يُحدّق في نفس الصورة ولا يملك دموعاً تسّح ولا يعرف كيف يُغلق عينيه. يظل يُحدّق من دون حب أو كراهية. أي تغييرات تحكم زاوية النظر إلى الصورة، لا تتوقّف طبقاً للفهم أو للمنطق، وللموقف. ما أكثر ما يلتهب الدمع فتبزغ جمرات حزن لا تنطفىء. ما أكثر ما يقتل إنسان ما، إنساناً آخر بوحشية وكان بإمكانه أن يتركه يعيش بسلام. تبني إسرائيل جدارها العازل، ونرى إليه في الصورة كما لو حتمية عالية، كما لو أنه يجب أن يكون كما هو عليه، في حين تنبض تحت جلد فلسطين إهانة عالية غير مضلّلة، وعندها أيّ قتل بشع وأيّة صوَر تمر أمام أعيننا.كان يمكن للأمم المتحدة صوغ جملة قانونية واحدة، تُعلن إحدى ولادات القرن العسيرة، فقضية فلسطين واحدة من القضايا الواقعة على الحدّ ما بين العدل والجريمة. قضية شعب وأرض وقضية ضمير وشعور إنساني ومسؤولية أخلاقية لا ترزح تحت نقصانها. ما يميّز صورة الفلسطيني ويجعلها بالغة ومتفرّدة على ما عداها من صوَر الشعوب، هو أن صاحبها لا يتوفر رغم القتل، على إرادة معتّلة أو مطلب ضبابي. الفلسطيني يريد أرضه، الأرض نفسها التي تثير جنون الإسرائيلي. صوَر الموت الأخرى لناسنا في اليمن وليبيا والعراق وسوريا ولبنان ومصر وسوى ذلك، ليست أقّل إيذاءً من الصورة الفلسطينية، لكن العقل يُدرجها حال تلقّيها، في خانة ألبوم صوَر العائلة: فلسطين الأمّ... وباقي أفراد العائلة.تأتي لحظة المشاهدة، لمّا تفترق صورة حياتنا، مع حياة صورة فلسطين نفسها، وتقف حرّة، ورويداً رويداً تبدأ تحكمنا وتحاكمنا. في الوثائقي المعروض الآن، أدرك أن ليس هناك قوة قادرة على تغيير صورة "فلسطين" التي استقرّت في المحكمة العليا للقدر الإنساني، لأن تلك الصورة موضع المشاهدة (مع إنها لا تحمل أيّ تشابه مع صورة أخرى) تبدو أكثر حقيقية من نفسي الحقيقية، وإنني كنت ظلّها، وأن ليس لي الحق في اتّهامها لعدم حملها أي ّشبه بأية صورة أخرى. عدم الشبه ذاك، هو صليبي الذي أحملهُ على مسؤوليتي.
Comentários