top of page

آلاف النغمات وفترة صمت واحدة

  • عناية جابر
  • Jun 5, 2017
  • 3 min read

دمرّتنا الأصوات، ودمرّنا الضجيج والحكي وأزيز الرصاص، رصاصٌ لا يكفّ لا في الأفراح ولا في الأتراح ولا مع نُذر إطلالات السياسيين، رصاص يخربط ضربات القلب ويُذّل الرأس، دمرّتنا أصوات الكره غير المسموعة تتناولنا بالعيون وبالقلوب، دمرّتنا موتورات المياه وموتورات الكهرباء وأصوات الشكوى المُرتدّة فلا من سميع ولا من مُحيب.

المصدر: الميادين نت

http://www.almayadeen.net/articles/opinion/58199/آلاف-النغمات-وفترة-صمت-واحدة

هناك أشياء تلعب كخلفيّة – تتبدّى هامشية في الظاهر – لموضوع رئيسي هو محور اهتمامنا، غافلين عن هامشية خادعة تُغلّف الموضوع الرئيسي، وتمنحه حياة ونبرة خاصتين .

بهذا المعنى، يؤنسني الإعتراف بأنني أحبّ السينما، وأستدّل على الفيلم الجيّد من موسيقاه المُرافقة من حيث ارتباطها الوثيق بالنصّ والحدث ، ما يمنح المُشاهد متعة كاملة في تشكلّهما كوحدة قوية، أقوى من أيّ ارتباط بين الفنون الأخرى . وحدة ديالكتية تفضي غالباً الى اكتمال العمل . صحيح أننا لاننتبه في غمار المشاهدة، إلى الموسيقى التي تُحيط في الحقيقة بالممثلين وحواراتهم وأماكن التصوير الداخلية والخارجية، سوى أننا نشعر بالموسيقى، نشعر بها لا نسمعها، إما عالية أو خفيضة ، حادّة أو رخيمة، وتمنحنا كمشاهدين، إحساساً قوياً بالمكان، ومنها تكتسب الكاميرا ميزات إضافية، حيث تلعب الموسيقى بديلاً إضافياً للمكان أحياناً، مما يسّهل لخيالنا أن يسبح في عالم الفيلم، مُحيلهُ إلى عوالم.

" موسيقى في الليل " عنوان لفيلم تروكاج عرضته إحدى القنوات – غير العربية طبعاً – أبطالهُ آلات موسيقية معروضة في متحف للموسيقى. إنه ليس فيلماً وثائقياً من كون المخرج اشتغل على عوامل غير حقيقية، سوى أن الموسيقى المرافقة قرّبتهُ من الحقيقة. الكاميرا تلهث حول دعسات البيانو التي تتحرّك من تلقاء نفسها وأوتار آلة " الهارب " تهتّز كما لو أنامل عازف تُرسلها.

البيانو المركون في العتمة تشّع منه ومضات نور تترافق بشكل رائع مع الدعسات غير المرئية لقدم صاحبها على البيانو . التضافر بين الآلات اللاعبة والحركات الموسيقية وعنصر الإضاءة شكّل اتحاداً مُبهراً كاد أن يُظهّر كلاماً وأحداثاً وشخصيات ، من الموسيقى نفسها .

تمثلت أكثر محاولات الفيلم نجاحاً مع كلود ديبوسي عبر أنغامه على آلة البيانو، حين خلقت مُعادلاً أو مقابلاً نغمياً للفن الانطباعي في بريلودات البيانو وحملت كل منها عنواناً عاطفياُ – رغم أن الأمر ذو دلالة، أعني غياب العناوين عن الشاشة – مع ذلك حزرنا العناوين التي لديبوسي، العناوين المنمنمة، ذات الفرادة الشديدة وقد تمّ التعتيم عليها من خلال براعة استعمال الضوء، الكاميرا، والمخرج الذي لعب دوراً أساسياً . إبداعات ديبوسي المروّعة والمحورية وصلتنا عبر الإخراج الجيّد الذي اعتمد الموسيقى كإحدى تقنيات السينما الحديثة .

" موسيقى في الليل " تبعهُ فيلم آخر في الدلالة عينها والأسلوب التجريبي، لكنه هنا استعاض عن الآلات الموسيقية برسوم ولوحات تشكيلية في قفزات مونتاجية من لوحة إلى أخرى، حيث دور الموسيقى هنا، التوثيق للحقبة التي تنتمي إليها هذه اللوحة وتلك، ومضمونها والفنان الذي رسمها .

الكلمات غابت تماماً، غير أنك تدخل إلى المشهد بسهولة وتعرف كل ما يريده لك الفيلم أن تعرفهُ، فقط من خلال الموسيقى التي رافقت حركات البقع اللونية التي تتوسّط خطوطها، لتتشكّل اللوحة، ومع كل خط جديد، وكل لمسة جديدة، وكل بقعة لونية، تنساب نغمة موسيقية متوافقة معها، وتشعر أنت كمشاهد بهذا التوافق التّام الذي يعكس أجواء اللوحات: بيكاسو كان حاضراً، كذلك دالي ودافنتشي وفان غوغ ورينوار وغيرهم من مشاهير هذا الفن .

هذه التجربة التجريدية التي ألغت الحدث، تركت لنا حرية أن نُسقط ما نريده عليها. ثمة الإسقاطات إذن، حصيلة ربط العناصر ذات الأجواء المتشابهة، وبالعكس تفريقها أحياناً ما انعش تصوّراتنا الشخصية لتغدو الموسيقى هي المادة وهي الأداة .

يقول الباحث السينمائي بيلا بالاش: في الفيلم توجد آلاف النغمات غير أنه لاتوجد فترة صمت واحدة، هي الظاهرة السمعية ذات الأهمية القصوى.

كلام الناقد تبلور في الفيلم الثالث الذي تبع الفيلمين الأولين ( مدة كل فيلم عشر دقائق )الفيلم لتشارلي شابلن العظيم ، حيث عدم النطق ، بل السكون العبقري في الفيلم، هو البطل، وهو المجال الذي تتحرّك فيه الشخصيات والأشياء والانفعالات.

سكونٌ استطاع تأزيم الغرام حدّ الذروة، وحدّ منتهاه، وحدّ التوتّر والقهر والإنفعالات النفسية إلى أن ينتهي ومن دون صوت، بحلول درامية إنسانية صافية .

سكون يعني غياب الموسيقى، مادة النغم نفسها، وهو التعبير الأكثر حرية للفيلم نفسه وللمُشاهد على السواء . سكون يعلن بداية الفيلم ويعلن نهايته، ونعرف بداية الفيلم ونهايته من نبرة السكون نفسها التي ليست في فضاء الفيلم بقدر ماهي فينا .

دمرّتنا الأصوات، ودمرّنا الضجيج والحكي وأزيز الرصاص . رصاصٌ لا يكفّ لا في الأفراح ولا في الأتراح ولا مع نُذر إطلالات السياسيين ، رصاص يخربط ضربات القلب ويُذّل الرأس . دمرّتنا أصوات الكره غير المسموعة تتناولنا بالعيون وبالقلوب ، دمرّتنا موتورات المياه وموتورات الكهرباء وأصوات الشكوى المُرتدّة فلا من سميع ولا من مُحيب .

نوع الأفلام التي ذكرت، بما هي موسيقى وسكون، تجعل الأوقات تمّر بشكل أهيّن وأقل إهانة لإنسانيتنا. مع السكون والصمت، الليالي تسير سيرها الناعم ، كذلك النوم الذي يُفسح للحلم . ما عدنا نحلم وهذه كارثة. إننا نمتلك في الأصل حياة رائعة إذا تخلّلتها الموسيقى وآنس إليها الصمت. حياة رائعة جداً، مُتاحة لبعض الشعوب دوننا، ربما لأننا نُحاسب هنا على هذي الأرض، أو لأننا من أتباع ضرّاب الطبل لا نقبل من دون ضجيج ضرباته، وأية موسيقى أخرى ضيّقة على آذاننا ... ولا تليق .

Comments


Recent Posts
  • White Facebook Icon

Follow me on

جميع الحقوق محفوظة © 2016 لعناية جابر والكتاب المشاركين ، وفي حال الاقتباس نرجو الإشارة إلى الموقع كمصدر

© 2016 by Samer Y. Saab. Proudly created with Wix.com

bottom of page