أحلى أيام
- عناية جابر
- May 12, 2017
- 4 min read
لم أكن بلغت السادسة عشرة حين وجدتني وقد تزوجت حديثاً، أخبر أميّ أنني حامل. باختصار كنت أمّا لثلاثة أبناء أنجبتهم أثناء متابعتي تحصيلي العلمي الثانوي بعد زواجي لأتفرّغ بعدها لدراستي الجامعية مدعومة من كل أفراد عائلتي، كلّ منهم بما ملكت يمينه. الجامعة اللبنانية، كلية الحقوق تحديداً، كانت مرتع طفولتي المقلوبة، كنت طفلة بعد، طفلة وأمّا. في كلية الحقوق، إلتحقت بصفوف العلوم السياسية لأن ابن جيراننا في الطابق السابع في البناية التي نقطن، كان التحق بكليّة الحقوق، فرع العلوم السياسية، ويسعه اصطحابي في رواحه ومجيئه، على الأقلّ في الأيام التي تتأزّم أمنياً، فالمبنى نفسه في البيت والجامعة، والدوام نفسه، الأمر الذي راق لي ولعائلتي لأننا كنّا في معمة الحرب اللبنانية، مدّها وجزرها ومن المستحسن أن يصحبني أحد لدواع أمنية، الأمر الذي استحال على زوجي بسبب من مواقيتنا المختلفة (عمله وجامعتي). قبل ابن الجيران بالمهمّة عن طيب خاطر، هذا ما بدا لي يومها وطاب لي تصديقه. دراسة العلوم السياسية لم تكن اختياراً إنتقائياً، كانت استكمالاً لحال الشيزوفرينيا التي وجدتني في قلبها: الطفلة / الزوجة، الأم/ الطالبة، الى ثنائيات متناقضة متناحرة ليست تكفيها هذه الصفحات. أنا في الشارع أخيراً على ما كنت أحلم، بعد سنوات أمومة بالغة البيتية، ما عدا ارتيادي المناسباتي للمدرسة التي أنهيت فيها علومي الثانوية وهو ارتياد متقطع لا يعوزه حضوري اليومي بل الحرص على المشاركة الى حدّ، وإن في حدود المواد الصعبة وامتحانات نصف السنة وآخرها. سنوات أمومة باكرة لم تبد بالنسبة لي 'زهرية ' تماماً على النحو الذي يُخبرنني أمهات صديقات أكبر منّي، يتمتّعن برغبة فطرية بالأمومة. أذكر أنني على سريري في المستشفى التي أنجبت فيها ابني الأوّل، ترجّيت أمي أن تصطحبه معها الى البيت، بعد أن أجفلني الإحساس بمسوؤليتي وحدي عن قطعة اللحم الطرية تلك بعينيها المغمــــضتين وفمها الفاغر. دمــــعة انسابت على وجه أبي لا أدري حتى اللحظة باعثها ومسبب انسيابها. في الشارع إذن، وحدي لا زوج لا أطفال، لا طبخ أو تغيير حفاضات، وحدي هكذا ولا حيلة لي أمام غوايات كثيرة. بدأ صباي في الجامعة، مراهقتي المسنودة على خلفية زواجي. ما أن اخرج من البيت حتى أنفصل تماماً عنه، واحياناً رغبة ما تُقسرني على ذلك الإنفصال. شوق خفيف للأولاد، وتفلتّ من أيّ إحساس بالذنب. أنا تلميذة جامعية ومغلوب على أمري إزاء فتنة هذا العالم. طويت تسعة عشر عاماً من الرقاد المضني والغيبوبة عن الخارج، عن الأشياء التي أعرف أنها تسكنني، وآن أن أعيشها اخيراً. انني حرّة بلا اضطرار ولا تبعات في فترات صباحية وأحياناً مسائية بحسب حصص الدراسة. وقتي ملكي، دراستي ونفسي، ولا داعي للإرتهان بما يُمكنه أن يجري في البيت، فوالدتي صبيّة ونشطة، وبيتها قريب من بيتي تقضي فيه جلّ أوقاتها، كما أن والدي وزوجي أبديا مرونة في التكفّل بأشياء كثيرة. في الشارع، وفي قاعات الدرس، وفي الكافيتيريا، وفي وعد حرية لذيذة، فلقد طال الوقت لأزفّ الى قلبي سعادته. علمتني الأمومة الباكرة ألاّ أكون غريبة في أيّ مكان، في المرأة الأمّ أنس ورقة تُقرّبها من القلوب. لا يُعيقني الغريب ولا المطرح الجديد. إن لي من حدسي ما يُوجهّني الى أشباهي، ما يجعلني أتلمّس الطريق الى الجمال. يكبس نادر ـ ابن الجيران ـ زرّ الأنترفون الخاص ببيتنا فأعرف أنه ينتظرني في مدخل البناية لننطلق معاً في سيارته الـ 'رينو' الصغيرة الصفراء الى الجامعة. حين أُغلق باب البيت خلفي أشعر أنني شُفيت من حداد طويل وكُلّني رغبة في إستهلال عمري على طريقتي هذه المرّة. مع الوقت، اكتشفت أن ارتيادي الجامعة لا يجعلني تلميذة على الشكل الذي أرى في الأفلام العربية، ثمة تلك المراقبة الذاتية المُربكة التي تحول بين أن أكون أنا نفسي بشكل هيّن، الإختلاط مع الشباب بشكل هيّن، التركيز على الدروس بطبيعية 'التلمذة' اذ كنت أشعر طوال الوقت أنني أُمثّل دور التلميذة ما أفقدني الإيقاع الحقيقي للأمر برمتّه وغدت معابثاتي المتأصّلة فيّ وحركتي اللاهية، أصعب. متاهة حلوة الجامعة، تخسر من حلاوتها كلما انتبهت الى أن ما تحلم بإنجازه زميلاتي هنا بعد انتهاء فترة دراستهن الجامعية، سبق لي أن أنجزته فعلاً، ولا شيء آخر ينتظرني سوى معاودة أمومتي وحدها، وهذا الأمر لم يكن كافياً لي البتة. حسابات بدأت أحسبها وتدور في رأسي، لم تعد معها 'حريتي' بالشكل الذي أملته طفولتي، ممكنة. بدأ قنوط من نوع ما، يلحّ عليّ ويتشرّبه قلبي. لم يكن القنوط نفسه الذي كان يغمرني في البيت قبل أن أخرج الى العالم الفسيح. لقد أصبح بالتأكيد أكثر ضراوة، يتغلغل فيّ ببطء شديد غير ملحوظ من عائلتي. قنوط كان سبباً في كتابتي الشعر. لكن الخروج اليومي مستمر، والتيه مستمر والعبث كذلك وإن بحدود، ولقيتني راضية بشكل عام بالخطوات الشاردة التي تنقلني خارج مسؤوليات الأمومة وحيطان البيت، والحياة المعدومة الإشارات. ليس القنوط المنسحب على كافة الأيام، بالطبع لكني لا أحتاج الى من يُذكرّني الى أنني ألعب في غير ملعبي، ومن يُذكرّني أن الدراسة هي آخر همومي وأنني مجرد متطفلة على الحرم الجامعي ودخيلة مهما 'تشاطرت' في دروسي ومهما نجحت في عقد صداقات. دخيلة لأنني كنت أحسب أن فكرة تحصيلي علوماً جامعية هي فكرة 'مضروبة' بالأساس، وبأن هناك من تكرّم وتعطّف ومنحني براءة هذا التحصيل اشفاقاً منه على طفولتي المهدورة، وأن أيّ 'خطوة ناقصة' من قبلي، كافية لتقويض هذه الهبة المهيضة الجناح. بدا لي حينها أن احتساء فنجان قهوة في الكافيتيريا، فيما أمي في البيت تعتني بأطفالي، زلة كبرى وتجاوز لعُرف سري عقدناه زوجي وأمي وأنا. الجامعة كانت حجة لصبر طفولتي على ما لا تطيقه. الصبر الذي قد يكون في حقيقته ابن الإستسلام المخادع..
Comentarios