يحدث إنني أريد ذلك تماما
- عناية جابر
- Dec 28, 2016
- 3 min read
القدس العربي 2013
كم من السنين الان؟ اكثر من عشر سنين، خمس عشرة، اشعر من جراء عملي الدائم في مكان لا يتغير، حتي وانا في خضم التذمر من الامر، او موشكة علي اختيارات اخري، بسكينة مهذبة، او بجلال من نوع معين، وبذلك التوقف في الحياة الذي يستعصي علي الوصف. ها أنني وقد انطلق منبه الساعة بالرنين عاليا، اقول في نفسي انني مغفلة، ذلك ان القرود وحدها تعلم لماذا؟ استيقظ الي هذا الحد، وكيف اداهم النهارات واختلقها اختلاقا، اباشرها، انوّع في توقيعاتي عليها ولا ينقص ارثي من الدهشة في اي يوم.
انني احب الايام، وتلك التي لم تأت بعد، والهدوء والصخب، والمشي في المدن، وقراءة اسماء المحلات وهي مقفلة، ورائحة البيوت خلف ابوابها، والابواق النحاسية، والمصابيح الخشبية وتعب الخطوات الاولي، والنشيد الغريب للطيور في الحديقة التي اجتازها في سبيلي الي عملي. ثم انت ما احب، الذي اكتب لك، وهذه اللحظة من الكتابة. الادهي انني احب ما احب، بعاطفة خرقاء ومخلصة، فلا يعود يعني شيئا ان تكون انت رجلا او بطة، رغم انك تمشي علي الارض والبطة تسبح في الماء، غير انني لا اعيق عاطفتي بمثل هذه المشاغل الغامضة.
اذهب الي العمل في الصباح، لسوء الحظ. الآخرون يذهبون للتريض، يسافرون باكرا الي بلاد بعيدة، او لا يذهبون الي اي مكان، يفكرون او ينامون. انا اذهب الي العمل، الي المكان نفسه منذ سنين، مع ذلك القدر من السقم الداخلي، رغم انه ليس بالشيء الخطير، الامر الذي يفهمه القارئ كصديق لهذه الكلمات، فلا يتطلب مني توضيحا.
اصل الي عملي بافراط. وصولي مفرط مع انني ازن بالكاد خمسين كيلوغراما. وبالطبع، هو نفس المكان الذي اصل اليه بكل افراط وصولي، وهو نفس الشعور الصبياني المدرسي الذي يجعلني ابتسم، واحيّي حرس المدخل، اما هؤلاء، فلا يغفرون لي ابدا، مودتي الباهظة التي تحرجهم، من كون الصباح ما زال صباحا مبكرا علي كل هذا الود. بوسعي ان اكتب ايضا كيف ادلف الي المصعد، كيف اتفرس في وجهي، الثواني التي يقتضيها وصولي الي الطابق الثالث، وكيف كما في كل صباح، انا التي تفتح الابواب والنوافذ، لكنني لست تلك البلهاء التي تسرد كل ذلك، مع انها من اروع الاعمال الصغيرة التي يتسلقها مطلق صباح، يطمح الي ان يكون صباحا عاليا.
قد نفترق، انت وانا، لمئات السنين، لا تكتب لي لا اكتب لك، انما بغتة يدهمني وجهك اتيا مع صباح ما، فماذا تقول؟ موهبتي الوحيدة انني اعرف انك تسكن في احد تلك الصباحات، فلا أدع ايا منها يفوتني. ففي الحب يجب ان تتوافر معرفة بسيطة، نبوة بسيطة ترعي اثنين يعيشان في غير مدينة واحدة. هل يهم اننا لا بد منتهون يوما، نحن وصباحاتنا بشكل محتم، وان كل الصباحات المقبلة تستمر من دوننا؟ انك جزء من اختراقات عشتها، وجزء من تلك التي لن التقيها ابدا، كونها منشورة كالضباب في لعبة التكرار الصباحي.
البناية التي اعمل بها، وآتي اليها كل صباح، ضخمة نوعا ما، محتشمة جدا، وانا ذات جسم ناحل، رقيق ولا يبصر. مع ذلك امشي مشيا مذهلا، الي المكان نفسه بالطبع، واتوقف لحظة واحدة، عند احتمال ان تكون انت المكان. مع ذلك انني لميالة الي القول ان اي تغيير في حياتي هو افضل من هذه المواظبة المضنية علي مكان وحيد. لكن قد يكون الامر غراما بهذه الرتابة! كما اخشي ان انا ارتدت مكانا جديدا، ان اكون اسيء معاملة خيالاتك التي اخترعتها علي الطريق ذاتها الي المكان نفسه.
نشوة التغيير والرغبة الدائمة بأمكنة جديدة، واكثر جدة، تجعل الناس قساة القلوب. انا لن اغير المكان. انا قلبي حنون وألوفة، وما ان تكون مرت سنوات عشر، او خمس عشرة، او حتي يومان متواليان، حتي تجعلني هذه غولا وحشيا يذود عن رتابته اليومية.
هنالك ثمة ازهار بألوانها المختلفة، باقات من الليلك والقرنفل، كتل من الورد الجوري، السوسن، المارغريت، في الحديقة التي اجتازها كل صباح في طريقي الي مكان عملي نفسه، واظنها رئيفة الازهار في الحديقة، وكريمة وهي تدير رؤوسها تشيّعني الي مكاني الذي اذهب اليه. هل يعود اذن مكانا واحدا ما انا في سبيلي اليه، حين تعيرني كل زهرة، لونها المختلف: بيضاء، بنفسجية، صفراء، حمراء، برتقالية غامقة، احملها معي في عيوني.
الامر ان المكان الواحد، لا يعود واحدا، لما الالوان معي، والامكنة فيّ. انا اذهب كل صباح الي مكان بعينه، هذا صحيح تماما. لكنه الذهاب غير المتبصر وغير المرئي، والذهاب في النحو غير المسموح وغير الثابت، الخفيف والسريع والاشبه بالغلالة، ولا يفضي ابدا الي المكان الذي من وفرة ما نعتاده، نهجره.
Comentários