طقوس وإشارات
- عناية جابر
- Dec 18, 2016
- 3 min read
في ما يُسمّونهُ "الذائقة" في أمر ما، لا أتحلى برؤية متماسكة للواقع ومقتضياته. أعني هنا، عدم مقدرتي على مقاربة عدد من هواياتي، من وقائعها الجزئية المفيدة لأبني عليها سيناريو حياتياً مترابطاً ومُقنعاً، كاملاً بمنطقه، متماشياً مع واقع حال أغلب الناس وعلاقتهم بالأشياء.

احد أموري المفارقة لما دأب عليه أغلب الذين يقرأون، علاقتي بكيفية إقتناء الكتب، العلاقة التي تفتقر الى أيّ خبرة بإرتياد معارضها، وإقتناص ما أرغب بقراءته منها، بشكل عملي ومريح، الأمر البديهي والمتعارف عليه في سلوكيات محبيّ القراءة والكتب. مناسبة التناول هنا، وعلى وجه التحديد، مناسبات معارض الكتب السنوية في لبنان والعالم العربي، والعالم بطبيعة الحال، التي أتفادى إرتيادها والإفادة مما توّفره وما أرغبُه منها، أنا المعروفة بضعفي حيال القراءة والكتب، لمّا هي حياة بديلة عن الواقع بحسبي، من دون توصيفات سلبية أو إيجابية لهذا الواقع. على كل، في معرض الكتاب الذي جرى عندنا مؤخراً في بيروت، أحببت أن أعاند ذائقتي واتحدى نفسي، في محاولة جادّة الى زيارة المعرض، والإنضواء في ما ينضوي إليه كافة خلق الله الأسوياء، وخوض تجربة زيارتي المعرض رغبة في عدة عناوين لكتب أرغب بإقتنائها. وأنا اقترب من الرفوف، كنت آمل في أن يكون البهو فارغاً من المرتادين، فلا يسألني احدهم عن غايتي أو على الأقل في حال الشراء: ماذا تحملين في هذا الكيس؟ وددت فعلاً لو الأضواء مطفاة كلها، تحجب عنيّ المتطفلين والمحبين على السواء، وتسمح لي بالإستدلال على كتبي المشتهاة من لمسها فحسب. وددت فعلاً أن اشتري كتبي عبر حاسة اللمس وحدها. أعرف أنني الوحيدة المسؤولة عن هذه الرغبة العقيمة، لكنني وببساطة لا أحبّ أن يبذل الكتاب نفسه لي، أن يتعطّر ويرتدي ألوانه ويتغاوى على الرفوف، ان يراود رغبتي عن نفسها وهو يتدلل طازجاً، عالياً، متشاوفاً، ومُعنى به بين رفاقه الكتب. جزعت وحجمت وسط الضوء والضجيج وبالتالي باءت محاولتي بالفشل فقفلت عائدة مغادرة المعرض لا ألوي على شيء. لم استطع الثبات أكثر أمام الرفوف، ولم اشعر برضى عن العلاقة بيني وبينها، كما انتابني حال هلع من توافد حشود الزائرين كما لو يذهبون إلى الحرب، وخفتُ أن يكون لي بينها أصدقاء يسألونني عن أحوالي، وإستطراداً عن الكتب التي أزمع على شرائها، الى حال تشبه "فوبيا" التظاهر والناس الكثيرة.
من طقوس وإشارات علاقتي بشراء الكتب، أن أذهب أنا إليها، غارقة بغبارها في مكتبات قديمة لاتُعير قيمة لعرضها ولا لمسح الغبار عنها. أضع ثقة عمياء في المكتبات القديمة، وفي أولئك الذين يعرضون بضائعهم من الكتب على الأرصفة (كما في مصر مثلاً وفي باريس على ما رأيت وفي اميركا وسواها حيث النوادر منها تكون على تلك الأرصفة) فأجلس إليها منحنية، أرّبتُ على أغلفتها وأسماء مؤلفيها، وانتشلها من النهارات القائظة التي تضنيها، والنهارات المثلجة التي تُرّجف أوراقها. احملها الى غرفتي وأباشر بها ليّالييّ الطويلة.
عندي قلة من المكتبات القديمة أواظب على زيارتها هنا في بيروت، أستدّل فيها على كتب قيّمة – على ما احسب – أمسحُ على أغلفتها المنهكة وأحملها كأطفال لي إلى جوار سريري، كما أوصي القيّم على المكتبة – وعادة ما نكون أنا وهو اصدقاء بفعل الوقت والإهتمامات – في حال عدم توّفر ما أرغب، ليعمد الرجل الى تأمينها لي، وسرعان ما تصلني هي نفسها صاغرة وإن جديدة. كما انني في أسفاري الكثيرة إلى مصر وسواها من المدن، اعتمد مثل هذه المكتبات وايضاً ألوذ إلى الحارات الضيقة وشوارعها، حيث الكتب مفرودة على الأرصفة بمحاذاة اقدام الخلق الكثيرة.
ما أحبه في هذه الشوارع الشعبية بشكل خاص، هو الإحساس بأنني أقوم بشيء نافع، بعملية إنقاذ، بلفتة رحيمة الى الكتب ومؤلفيها المتروكين في أمكنة مهمشة، تنام الكتب على أرصفتها، وتعيش نشوة الإنتماء الى المكان، الى المّارة .. الى الله إذا جاز القول.
اقفل إلى البيت أو إلى غرفتي في مطلق أوتيل في بلد غريب حاملة مقتنياتي الوفيرة، وقد غلبني الإحساس بأنني استللتها من الأرحام، هي التي لاتعرف رفاً تستند عليه وليست عرضة لأنامل رؤومة تقلبّها، تحنو عليها وتحملها معافاة من النسيان.
هذه الرغبة التي أفضتُ في شرحها، لاتعادي الناس العاديين الذين يقصدون معارض الكتب ليحصلوا عليها في سعة المكان والثمن المعقول، ولا تعادي فكرة إقامة المعارض بحّد ذاتها، لكنها تُسعف رغبتي الغريبة بعض الشيء، في أن اكون القديسة الحامية للكتب القديمة والقديسة الحانية على مؤلفيها، المنسيين هكذا في أماكن وشوارع تحجب النظر إليها .. والحب.
ألتقط " ذئب البوادي" لهرمان هسه من تحت الأقدام، وكل كتب ميشيما وكاواباتا وكنزابورو اوى وجان جينيه وبول اوستر، كتب لموراكامي وتوني موريسون وموديانو والبرتو مانغويل وبورخيس وكثيرين، ولا اشتري أيّ من كتبي أتركها وحيدة، أترك للغير أن يعثر عليها.
المصدر: الميادين نت
Comments