خاطرة #6
- عناية جابر
- Nov 28, 2016
- 3 min read
لا يجذبني أبداً التركيب الشعري أو المعرفة الشعرية.. ألقصيدة ببساطة يجب أن تتذرّع بأمر ما لكي توجد ، كأن تبحث عن علاقة ما بين ساق إمرأة وملوحة جسد رجل ، أو بين فستان منّقط على حبل الغسيل وسعير مراهق يوشك أن يسقط من الشباك . قصيدتي تريد أن تجد مكاناً في عنق أملس لتعلّق عليه آثامها .
أعتقد أن التقارب الحّاد بين اللحظة التي أرغبك فيها بشدة وبين عبث الرجاء هو الذي يُسرّع نبضات قلبي . إنني مفتونة بالرغبات التي تُسرّع نبضات القلب . ما تزال القهوة ساخنة مع أنني نفختُ فيها كل أنفاسي ، خسرتها كلها . النادلة تسألني إن كنت أرغب بقطعة كيك بالشوكولا ؟ أدّسُ اصبعي في حلقة الفنجان وأومىء لها أن لا.. مرسي بصوت خفيض .
في المقهى عند الشاطىء الآن ، المرأة خلفي مازالت تثرتر . تتكلم مع صديقتها من دون لحظة توقف . إلتفّتُ اليها أخيراُ والله وحده يعلم جنون نظرتي التي اخترقت صدغها .
- هل أزعجك ؟ سألتني ، ابتسمتُ ابتسامة واهنة ، لم أُجب . سكتت أخيراً لأفكر أن بيروت تقع على شاطىء البحر ، هذا يعني الكثير من الأفكار وأنني طوال النهار وأغلب الليل أسافر من فكرة الى أخرى . أفكاري تحدثُ في الغالب قريباً من الماء . ولأنني أعيش في مدينة بحرية ، ذاكرتي مُتخيلة ربما ، لكنها ممكنة . أفكر بك الآن . أفكر أن صديقتي سوف لن تأتي لأنها مشغولة وأفكر أن المرأة خلفي سكتت كلياً وأمامي متسع من الوقت لأفكر بك تحديداً ، بجسدك ، بأنك نافذة واسعة أو أنك حبر أسود أو غرفة في فندق أو يأس أو أرق مفاجىء ، وأفكر أن المرأة صمتت ويغدو صمتها صعباً فجأة لأنه بدأ يأخذ معنى !!
في الشارع يلفتني الأجانب البيض الذين مازالوا بيننا ، وهم صحافيون في الأغلب ، ومراسلون ومخبرون وسوى ذلك . أراهم وقد لحقتهم عدوى الكآبة المستشرية عندنا ، وأرى أن بينهم الآن وبين ناس بيروت ، ألفة الحيرة وألفة اللا هدف واللا غد ، أنظرهم في المقاهي يرشفون قهوتهم ساهمين واجمين . أكثر ما يُعذّبني ، أشكال المانيكانات في واجهات المحلات ، أجدها غامضة هكذا في جمودها ، وأحسب أنها أشكال حيّة ، سوى أنها تتلآمن علينا وتتسمر واقفة تنظرنا في خيبتنا .
في مشهد من " فالس الوداع " لميلان كونديرا ، تقول احدى شخصيات الرواية : في هذا البلد لايحترم الناس الصباح ، إنهم يوقظون أنفسهم بفظاظة بواسطة مُنّبه يقطع نومهم بضربة فأس . ليس المنبه الزهري كالكاراميل بجانب سريري أداة عنف ، إنه صديقي أوقظه بلطف قبل أن يوقظني . لقد أنقذتُ صباحاتي بإختراع أخرى بديلة ، مغسولة من حياتها العربية وتوّجتها ملكة على كل الصباحات، ذلك أن البساطة ملء يديها ، وخفيفة حدّ اللعب ، وتحضن المدى المائي بنورها ، أتهادى على الطرقات أسعى اليك .. الى البحر أعني .
يبدأ الحب من حيث انتهى حب أفل. من الأعماق التي ابتلعت الحكاية وها هي هادئة الآن . سكنت الرعدة التي أرّقتها والمشاعر العظيمة رابضة في قاع الصدر . ها هنا المعنى الذي لا يتيسر لنا فهمه تماماً , هل الحب هو فكرته والأشخاص مجرد شواهد ؟ هل لم أحبك كفاية لكي يأتي آخر ؟ لماذا هذا القلب لاينال منه الماء , لماذا لايُغرقهُ وينتهي أبداً ؟
الديفا في حدود المئة , لكننا نجدها حين يستدعيها الحب تجبل الطين الذي صنع منه الرجل , والعالم . لاتزال تمنح الحياة ولا تزال تحمل شهادة الحياة وسرّها . في حدود المئة لكن لها عينيها اللتين تستعيدان الرجفات بنظرة عميقة , فترى الحب يعود تحت عينيها ناجياً . لايموت الحب مع العمر .. همّ النساء أن يقلن ذلك .
أن تكون حكاية آدم وحواء من أحسن القصص أو لا تكون , فهذا لايهّم , في مواجهة كل هذا المدى والعناصر الأولى والجبروت يصعب القبول بأقّل من حب كامل . إنها أوقات ذروة وأوقات نهاية يصّح معها التشتت في نثر الحياة وجزئياتها . لقد أنقذتني عن الحافة . ليس ماؤك مُغرقاً فحسب , بل يُعطي الحياة ويغسلُ ويبدأ العالم ثانية أيضاً .
أنا في البيت أنتظر أن يحدث شيء على اللوحة بمجرد تحريك يدي أمامها . علبة الدخان ملآنة على آخرها وموسيقى من نصرت فاتح علي خان . أريد أن أرسم شيئاً يهوي في العتم , أريد أن يوجد العتم في الصورة من دون أن يلطخها .
أنا وإن كاتبة أنثى ، لا أتدللُ في أنوثتي . أتدللُ في كتابتي . لاأفكر لحظة أن أكتب على غرار ما يكتب الرجل ، بل أستحضر كل إشارات عالمي الكتابي الذي أكتشفتهُ بجهدي الخاص ، بحساسيتي وتعبي . أنغمس بفكرتي الشخصية عن الكتابة . أعيد تجسيد المعاني الغائبة ، اوقظها وأجعلها تحيا ، لا أواجهها أو اقمعها ، بل أحدب عليها وأتنّفسها كعناصر تنتشر في الهواء ، تدخلني وتنفخ رئتي وقلمي . أفسح في الكتابة للأشياء الهامشية ، الأشياء التي هجرها العالم ، وأدعوها تبكي هجرانها على صدري ، وصفحتي
Comentários