خاطرة #4
- عناية جابر
- Nov 21, 2016
- 2 min read
على احدى القنوات الفضائية ، وفي برنامج يهتّم بالأصوات الشبابية الصاعدة ، كان المشترك يغني لمحمد عبد الوهاب : لمّا انت ناوي تغيب على طول / مش كنت آخر مرّة تقول ؟. صوت قوي وإطلالة واثقة وإتقان لمخارج الحروف والمدّات وما الى هنالك .. سوى أنها النبرة ما تنقص، فلوعة السؤال تكمن في النبرة هذه وليس في كلمات الأغنية .
في الأوقات الصعبة ، وهي صعبة غالباً عندنا ، ألوذ بالموسيقى لتأثيرها السحري فيّ . أعاود سماع أغنيات أحبها منها : لمّا انت ناوي .. ، غناها عبد الوهاب سنة 1929 تبدأ بالمذهب لتتوالى الكوبليهات على لحن واحد ، الى عودة الى المذهب إثر كل كوبليه فيما " المذهبجية يرددون المذهب لأن الغرض من مشاركتهم هو ترديدهُ .
أغنية شجية يسأل فيها المغنيّ ، حبيباً غادر ( ويبدو على طول ) من دون أن يعرف سبباً لمغادرته ، ومن دون أن نعرف نحن الذين نستمع . أفكرّ بالإنتباه المتأخر للمغني الى الغياب الفادح للحبيب ، كما لو أؤخذ على حين غرّة ، ذلك الغياب المُنهك الذي جعله يداعب أوتار عوده ويروح يغني تحت الإشراف القاسي لفكرة الغياب المُحيّرة . أفكرّ بالفراغ الذي اتسع في فضاء المغنيّ من كون الذي غادر قد غادر .. وعلى طول .. كما أن مساءلته الآن عن سبب غيابه لم تعد تجدي ، من حقيقة أن المُساءل غائب وغير موجود ما يُفقد المحاسبة مبررها وتلقائيتها .
ما يفتقده المشارك الشاب في البرنامج التلفزيوني هو ذلك الجزع الذي تبدى في صوت عبد الوهاب من مثل ثقل هذا الغياب الغرائبي ، في الوقت الذي حسب أن الأمور سائرة على ما يرام ، وان الذي غاب ما كان عليه أن يغيب ، والخلاصة أن ثمة ما يستدعي المناجاة والغناء والحسرة .
أفكرّ أن محمد عبد الوهاب وقد شرّع عوده وحنجرته مناشداً ، انما من إحساس بالذنب وبالمسؤولية عن ذلك الغياب .
ليست كلمات : لمّا انت ناوي تغيب على طول ، تتفق مع طبائع المحبين الهادرة . كلمات هادئة غير بكاءة تسأل بحذر متشكك ولائم قليلاً . المحبون غضوبون ونزقون من وفرة هيامهم بينما كلمات الأغنية غير مُهددة ولا تطالب بأجوبة فورية .
من النادر إدراك هذا الحّد الهيّن من المساءلة بين المحبين . في الأغنية الغياب هنا يعادل الموت ويجعلك ترى عذابك الخاص ماثلاً أمامك وتتكشف عن حلول فقد كبير .
لحظة انتباه المغنيّ الى أن من رحل ، قد رحل وعلى طول ، قرّر إطلاق لوعة للبعيد الغائب ، البعيد والقريب في آن مثل الأشياء الأليفة جداً وغير المفهومة أبداً .
يُغني عبد الوهاب من حنجرة وداخل مجروحين ، مناشداً برّقة جواباً ما ، كذبة حتى تُداري الهاوية التي فتحت فاها فجأة .
أسمع أغنيات لعبد الوهاب تمتلك النبرة الشاكية ذاتها : ليلة الوداع ، خايف اقول اللي ف قلبي ، مضناك جفاه مرقده ، سهرتُ منه الليالي ، علمّوه كيف يجفو فجفا، حسدوني وباين في عينيهم ، يا مسافر وحدك . كلمات مهيضة تلزم امغني بأدبيات الدونية في الغرام . كيف أمكن لعبد الوهاب الموسوس المحترس من مصافحة ايّ كائن خوفاً من عدوى الفيروسات ، غناء تللك الكلمات المهيضة التي ترتجي مصافحة قلب الحبيب ، بل وحتى العيش في ظل غيابه ، وغدره ، وفيروسات غيابه القاتلة .
Comments