ثلاث صور
- عناية جابر
- Sep 30, 2016
- 2 min read
جدّي يظهر في ثلاث صور في ألبوم وجدته مؤخراً في بيت أهلي. واحدة في مصنع للسيارات أحسبهُ (فورد) في أمريكا التي هاجر اليها شاباً، يقف وسط عمّال يرتدون زيّا موحدا (أوفرول)، في الوسط فتاتان باسمتان، إحداهن تميل برأسها على كتف جدّي، شعرها مسدول، أصفر صامت. أكوام من الحديد المقّطع المشغول جزئياً، رافعات، سقالات، نبات شوكي يلوح في أقصى الصورة، مكسو بغبار فضيّ.
في صورة أخرى، مُزخرفة التقطت في خضم عرس ما، يظهر جدّي واقفاً بجانب عروسين لم أتعرّفهما. حركة أرجلهم المتمهّلة في مقاربتها الدرجة الثانية من درج الكنيسة الواطىء، كما لو تتمهل من أجل الكاميرا فحسب. كما يبان جزء كبير من سيارة طويلة بيضاء. سيارة لامعة برّاقة من إنتاج سنوات العشرينات مُزيّنة مقابض أبوابها لجهة مُلتقط الصورة، بشرائط مُلوّنة على ما أحسب، فالصورة بالأبيض والأسود ولا يمكنني تمييز الألوان، إنما أخمّنها من عندي.
بجانب هذه السيارة تظهر فتاة الصورة الأولى أيضاً، التي كانت مالت برأسها على كتف جدّي. شعرها الأصفر (هكذا أحبّ توصيفهُ) الذي كان صامتاً في صورة (الفاكتورا) بدا مُثرثراً هنا ويلمع تحت الشمس. جدّي في صورة العرس مُهندم بشكل مدهش، ببذلة غامقة وربطة عنق، يعتمر قبعة خفيفة من الساتان المجدول، ويُذكرني الى حدّ بالممثل آندي غارسيا، وأمام السيارة، الفتاة ذات الشعر الأصفر قوية، أطول منه على ما يُخيّل لي وأعرض، جليلة ولامعة مثل منارة في الفجر، ترتدي فستاناً صيفياً بلا أكمام، وثمة عقد من الخرز حول عنقها مع شبكة شيفون تغطي جبهتها.
منْ هما العروسان النازلان درجات ثلاث وجدّي مُهندم بمناسبة زواجهما، وهل هذه سيارة مُستأجرة أم تخصّ العروسين أو أحد أقاربهما أو هي ملكية جدّي نفسه؟ لا أعرف، ولكنه في الصورة يبدو كمالك لمصنع سيارات.
في الصورة الثالثة التي وجدتها في ألبوم الصور في بيت أهلي أرى الى جدي جالساً مبتسماً خلف طاولة أو مكتب، نحيفاً وشاباً ومتوتراً، شعره ممشّط الى الأعلى، على عينيه نظارات مستديرة رزينة داكنة الإطار، ويرتدي قميصاً فاتحاً قصير الكمّين. جدّي في الصورة مُسترخٍ بشكل مُحيّر يضع رجلاً على رجل، ظهرُهُ الى باب خشبي مصقول وصارم، وأشعة ضوء دقيقة تُنيرالغرفة، احسبها تسللت من شباك ما لا يبان في الصورة. على الحائط الوحيد المُتاح لزاوية ملتقط الصورة، وعلى يسار الباب الموصد، عُلّقت صورة مؤطرة للفتاة المائلة برأسها على كتفه، في الصورتين الأولى والثانية، في مصنع السيارات وأمام الكنيسة. فتاة تبدو على بيّنة تامّة ممّا تريد، ومُصممة على الحصول على ما تُريد مهما كلّفها الأمر. أيضاً على الحائط بنطلون مُعلق وحزام وكوفية عربية.
في تلك الأيام، أيام حياة الصور الثلاث لجدّي أعني، مئات آلاف اللبنانيين هاجروا وتحوّلوا الى مهاجرين، وجدّي بقي في أمريكا لأكثرمن ثلاثين عاماً، وحين عاد لم تكن فتاة الصور الثلاث برفقته، كما أن جدّي لم يأت على ذكرها مطلقاً في أيّ من أحوال عيشه اللبناني، لا أمام أولاده وأصحابه وليس بالطبع أمام جدتي . لكنه كان كثير التنهّد، سريع التأثر والبكاء. هناك في البلدة الأمريكية التي أمضى فيها شبابه، أمضيت سنة كاملة (على تقطّع) ليس استجماماً في الحقيقة، بل هرباً أو مجموعة 'هروبات' هناك في البلدة نفسها، بقيت أبحث بعينيّ أينما اتجهت عن وجه صاحبة الصور الثلاث، مع يقيني بالطبع أنها غادرت دنيانا منذ فترة طويلة، ما دمت أنا نفسي لم تتسن لي رؤية جديّ حياً لمّا كان هذا قد وافتهُ المنيّة قبل ولادتي. هجست في إقامتي الأمريكية الوجيزة بإلقاء التحية على حبّ حياته، أن أقول 'هالو' للفتاة التي كان دمعهُ يسحّ مدراراً كلما عنّت له.
Comments