ماذا ذهب يكتب في العتمة؟
- عناية جابر- القدس العربي
- Aug 8, 2008
- 2 min read
جزعت لرحيل محمود درويش. كنت في أمريكا وكان يرقد مريضاً في احدى مستشفياتها، وماعلمت، حتى جاءني خبر غيابه الأخير في رغبته الى تذوّق سكون الموت، فعرفت سرّ كوابيسي التي أثقلت لياليّ الأمريكية. موت شاعر وسيم، مشدود جسده كرمح صعقني. شعرت بالحرج من رحيله المباغت، وداهمني حداد زائغ، منعزل، متفكك. تمرنّا على الموت، نتحمله بسكون في كثافة هذا العالم، لكننا نصعق ما زلنا، تتقطع أنفاسنا ونرسل صرخات مكتومة حين يغادر شاعر. مات محمود درويش وانفتحت ثانية، ستائر قلبي كاملة على جسامة غيابه، فالموت تطاول كثيراً وتحدانا في عقر دارنا وقصائدنا، ودّك أساس الكلمات.
لم أكن بالضرورة، قارئة مثالية لشعر درويش، ولم أكن أعرف أيّ المشاعر أبذلها له، وكنت مذنبة قطعاً في فوضى تذوقّي الخاص للشعر، لكنه درويش كان يكمل دورانه، رقصه، وحوله يدور بريق الأنوار، كأنما الأنوار كلها لم تسطع الا لهدف واحد : التمهيد لغياب عجائبي مخيف، يردم الهواء المتحرك بين الحياة والموت، تلك الهوة الجنونية التي تركتها وراء درويش ذراته المختفية.
ماذا ذهب يكتب في العتمة الكاملة، الرجل كثير الشعر، كثير الحب، كثير فلسطين، كثير الأسفار المتقلبة فتنته في المدن والمنافي. لمن ترك فلسطين كتلاً مزرّقة، بطيء نبضها، منتفخ قلبها ويملأ السواد شوارعها. ماذا ذهب يفعل وحيداً، من دون فرضية صغيرة جداً، استثناء وحيد، امكانية عودة ما، معلقة في الهواء، أو مطمورة في 'البروة ' أو في 'رام الله '.
موته هجوم ارادة خشنة فظة، تدفقت كريح جليدية على قامته الفارعة، على قصائده وفلسطينه، لا أدري من أيّ شريان اخترقته، أو من أية سماء، ومن أية غفلة، ومنعته من أن يكون الى أبد الآبدين، شاعراً وسيماً تنساب كلماته بلا انقطاع بين ذرات عالمنا المُضجر.
غداً، على عادتنا في النسيان، نغذّ السير في نسيانك. غير ان غيابك جعل كل الأشياء بلا ملامح، واستقّر العالم في بلاهته وقبحه، وكنّا نتحملّه معك بشكل أفضل. كلماتك تأخذ الفتنة على عاتقها وكل كلمة كأنها فتنة أولى. أيها الشاعر الراحل، لن تجد أي مصدر للمرارة والحزن والتعب حيث رحلت، لكنك تقبع تحت نظام الموت الصارم جداً وليس يُشغلك بعد ترتيب القصائد.
حفل مشيتك الراقص يرتعش بعيداً في ذاكرتي الآن : حطام جسدك الممشوق، ووحيد في محيط ساكن وقد خلفّت لنا مطراً من الكلمات لأجل أن نُنعم التفكير في جدوى الحب، وجدوى الوطن والمكان، ولأجل أن نتنّزه في حدائق الشعر، نسترجع بعض روحنا، نرتعش، نتدفأ، نحتمي، نتغذّى، نكبر ونخرج من طيات الذّل، نتمطىّ حتى السماء، وذات يوم تكون فلسطين، ندخلها من تعب كلماتك، ندخلها في كل سطر كتبته.
الحيل الصغيرة التي كنت أُجيزها لنفسي كلما جمعنا سفر في دعوة واحدة: أن أجلس وحيدة وبعيدة عنك، ان أتجنبّ الكاميرات التي تلاحقك، أن أتظاهر أن وهج حضورك لم يحرقني الى أن تناديني وتسألني : كيف الشعر؟ فيهدأ روعي ويقيني أن كل ما كنت أتظاهر به ليس أكثر من خداع لنفسي، فقد كنت في الحقيقة أسير اليك وان على مبعدة، كأنني مشدودة بخيط نحو نور حضورك الذي أُحبّ، والذي كنت وددت لو خزنّت منه قبل أن ترحل، لتغتذي به أيامي المعتمة. شلني الخوف من رحيلك وانهار قصر الكلمات، وكلّه من المرمر. الهاتف الذي رنّ يُنعيك، والأرقام التي لمعت في الظلام وأيقظتني من نوم ساخن ثقيل، لم تدر أيّ تعب حمّلتني. انشغالي بأميركا لم يترك لي وقتاً لمتابعة الأخبار، فجاء رحيلك مباغتاً، مهيباً، صاخباً. ألم، مزيد من الألم، وكان جسدك ممّددا في احدى مستشفيات هيوستن، على مقربة منيّ، وما عرفت، فقط الكوابيس، والمزاج المعتكر، وها هو نعيك يُضيء الأرقام في العتمة.
Comments